تصدّع النفوذ الروسي في مالي.. من شراكة «الأمن مقابل الموارد» إلى عبء سياسي وأمني
شهدت مالي خلال الأشهر الأخيرة تحولات ميدانية وسياسية عميقة أعادت طرح السؤال حول مستقبل الدور الروسي في القارة الأفريقية، بعدما كانت باماكو النموذج الأبرز لما عُرف بتحالف “الأمن مقابل الموارد”، الذي منح موسكو موطئ قدم مؤثرًا في منطقة الساحل، قبل أن تتبدد إنجازاته تحت وطأة الفشل الميداني وتغير الموازين الإقليمية والدولية.
من النفوذ الفرنسي إلى الحضور الروسي
على مدى عقود، اعتُبرت مالي جزءًا من “الحديقة الخلفية” لفرنسا، لكن انقلابي 2020 و2021 العسكريين غيّرا المشهد كليًا. فمع تصاعد الغضب الشعبي من باريس، اتجه المجلس العسكري الحاكم نحو موسكو، التي رأت في الفرصة نافذة لتوسيع حضورها في أفريقيا وتعويض عزلتها الأوروبية عقب حرب أوكرانيا.
تدفّق السلاح الروسي إلى باماكو، وانتشرت عناصر مجموعة “فاغنر” لتتولى التدريب والقتال وحماية المسؤولين، بينما انسحبت القوات الفرنسية والأممية تباعًا. وسرعان ما تحولت مالي إلى نموذج لتجربة النفوذ الروسي الجديد في القارة، مقرونًا بعقود تعدين وطاقة تقوم على تبادل “الأمن مقابل الموارد”.
نجاحات مؤقتة وتحديات متصاعدة
في البداية، بدت الشراكة الروسية المالية ناجحة. فالمقاتلون الروس لعبوا دورًا حاسمًا في استعادة مدينة كيدال عام 2023، وهو إنجاز رمزي ضخم لباماكو بعد عقد من فقدان السيطرة عليها. لكنّ الانتصارات العسكرية لم تصمد طويلًا أمام واقع أمني متدهور؛ إذ تعرّضت قوات فاغنر لكمائن دامية عام 2024، بينما استهدفت هجمات إرهابية العاصمة نفسها، ما كشف هشاشة المنظومة الأمنية الجديدة.
وبحسب تحليلات دولية، فإن توسّع فاغنر في مالي أظهر محدودية قدراتها اللوجستية وضعف تنسيقها مع الجيش المالي، فضلًا عن تزايد الانتهاكات بحق المدنيين التي أضعفت صورة روسيا في المنطقة وأثارت موجة من الانتقادات الغربية.
إعادة هيكلة روسية وفراغ أمني
صيف عام 2025 شهد نقطة تحول حاسمة؛ فمع قرار الكرملين إعادة هيكلة وجوده العسكري تحت مظلة “فيلق أفريقيا”، انسحبت وحدات فاغنر تاركة فراغًا أمنيًا كبيرًا.
وقد وصفت تقارير غربية هذه الخطوة بأنها “ضربة قاصمة” للحكام الماليين الذين وجدوا أنفسهم أمام تصاعد للتهديدات المسلحة، وأزمة وقود خانقة، وتراجع الدعم العسكري الروسي.
ويرى باحثون أن انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا وصراعها مع الغرب أدى إلى تراجع اهتمامها بالساحل الأفريقي، في ظل أولويات استراتيجية أكثر إلحاحًا على حدودها الأوروبية.
ويؤكد المحللون أن إعادة الهيكلة لم تكن مجرد تغيير تنظيمي، بل تعبير عن إرهاق روسي ميداني واقتصادي.
انعكاسات إقليمية وتحولات داخلية
لم تتوقف تداعيات الأزمة عند مالي وحدها. فدول الساحل المجاورة، لا سيما بوركينا فاسو والنيجر، باتت تراقب الموقف بقلق خشية انتقال العدوى الأمنية إليها، في ظل تحالف ثلاثي جديد يسعى لبناء قوات مشتركة مستقلة عن الدعم الروسي، وقد نُفذت بالفعل عمليات ومناورات عسكرية في 2024 و2025 تعكس هذا الاتجاه.
في المقابل، تحاول روسيا الحفاظ على موطئ قدم عبر الدعم الاقتصادي، خصوصًا في مجال النفط والوقود، لكن دون رغبة في الانخراط الميداني الواسع، وهو ما يراه الخبراء “إشارة إلى بداية انحسار النفوذ الروسي في القارة”.

