لقاء يكسر قواعد العقود الثمانية.. الشرع يغادر البيت الأبيض بعد مباحثات مغلقة ترسم ملامح علاقات جديدة مع واشنطن
زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع للبيت الأبيض تصنع تحولاً كبيراً في العلاقات السورية الأمريكية، بعدما غابت اللقاءات الرئاسية بين البلدين لأكثر من ثمانين عاماً.
مغادرة الشرع للمقر الرئاسي الأمريكي عقب اجتماع مغلق مع الرئيس دونالد ترامب تعلن بداية مرحلة سياسية مختلفة، يتغير فيها شكل التعاطي الأمريكي مع سوريا، وتتجه فيها دمشق لتثبيت حضورها الدولي بعد سقوط نظام بشار الأسد وإعادة ترتيب أولويات الدولة السورية في مرحلة ما بعد الحرب.

زيارة تكسر نمطاً عمره ثمانية عقود
قدوم الشرع إلى واشنطن يعيد فتح ملف العلاقات السورية الأمريكية من جديد، خاصةً أن سوريا لم ترسل أي رئيس إلى الولايات المتحدة منذ تأسيس الجمهورية السورية الحديثة في أربعينيات القرن الماضي.

دخول الشرع إلى مجمع البيت الأبيض من مبنى إيزنهاور الإداري وليس من المدخل الرئاسي التقليدي يوحي برغبة الطرفين في تفادي تسليط الأضواء على اللحظة الأولى، والتركيز بدلاً من ذلك على مضمون المباحثات ونتائجها السياسية.
انعقاد الاجتماع بين الرئيسين بعيداً عن البروتوكولات المعتادة، ودون مراسم استقبال أو صور رسمية، يعكس حساسية الملف وتشابكه الإقليمي والدولي.

لكن رغم هذا الصمت، فإن مجرد انعقاد الاجتماع يمثل حدثاً غير عادي، ويشكل إشارة قوية إلى تغير في المزاج السياسي الأمريكي تجاه دمشق، واستعداد واضح لفتح صفحة جديدة أكثر توازناً.
قرارات اقتصادية تفتح أبواب ما بعد الحرب
تزامن الاجتماع مع إعلان وزارة الخزانة الأمريكية رفعاً واسعاً للعقوبات على سوريا، وهو إعلان يحمل دلالات بعيدة المدى.

الخطوة الأمريكية لم تقتصر على تعميم تخفيف العقوبات فحسب، بل شملت إجراءات عملية تتعلق بالاستثمارات، وإعادة الإعمار، والتمويل الدولي، وتخفيف القيود التقنية المفروضة على القطاعات المدنية.
قرار تجميد جزء كبير من قانون قيصر مثل أكبر تغيير في السياسة الأمريكية تجاه سوريا منذ 2011.
ومع أن إلغاء القانون كلياً يحتاج إلى موافقة الكونجرس، فإن التجميد الجزئي وإعادة هيكلة القيود يفتحان الباب أمام الشركات الأمريكية والغربية للدخول في مشاريع إعادة الإعمار، التي تحتاج إلى أكثر من 200 مليار دولار وفق تقديرات دولية.
استمرار العقوبات على بشار الأسد وبعض المقربين منه يؤكد أن واشنطن لا تتخلى تماماً عن أدوات الضغط، لكنها تعيد توجيهها بما يتناسب مع المرحلة الجديدة، خصوصاً أن المشهد السوري بعد سقوط الأسد يحمل معادلات سياسية مختلفة، ورهانات جديدة على الاستقرار وإعادة تدوير الدور السوري إقليمياً.
سوريا تنضم رسمياً للتحالف الدولي ضد داعش
إعلان النائب الجمهوري براين ماست انضمام الحكومة السورية بقيادة الشرع إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش يضيف بعداً استراتيجياً إلى زيارة واشنطن.
خطوة الانضمام تمثل تحولاً جذرياً في التموضع السوري، وتحمل رسالة واضحة بأن دمشق تتحرك نحو شراكات أمنية جديدة، بعيدة عن الاصطفافات التقليدية التي سادت خلال العقد الماضي.
ماست وصف لقاءه بالشرع بأنه "لقاء بين جنديين سابقين كانا ذات يوم أعداء"، وهو تصريح يعكس التغيير الذي يطرأ على المسرح السياسي الأمريكي، وعلى الطريقة التي تُدار بها الملفات الخارجية.
إظهار الشرع كرجل دولة يسعى لتجاوز إرث الماضي، وتقديم نفسه كشريك محتمل للولايات المتحدة، ليس مجرد خطاب دبلوماسي، بل جزء من استراتيجية إعادة تشكيل العلاقات السورية-الأمريكية.
جذور القطيعة التاريخية بين دمشق وواشنطن
تاريخ العلاقات بين البلدين لم يعرف تقارباً رئاسياً مباشراً، رغم وجود محطات سياسية متقطعة.
فترتا حكم شكري القوتلي لم تشهدا أي زيارة رسمية للولايات المتحدة، بينما كانت السياسة الخارجية خلال فترة الوحدة السورية-المصرية تُدار من القاهرة.
عهد حافظ الأسد شهد محاولات محدودة للحوار غير المباشر، لكنه لم يصل إلى زيارة واشنطن إطلاقاً.
أما عهد بشار الأسد، فكان الأسوأ من حيث مستوى العلاقات، بعدما وصلت القطيعة إلى ذروتها في 2011، وتبعها فرض عقوبات شاملة، في مقدمتها قانون قيصر، الذي شكّل الإطار الداعم لسياسة العزلة الأمريكية تجاه دمشق لمدة تقارب 13 عاماً.
إطاحة الأسد في ديسمبر الماضي أعادت فتح المجال السياسي الداخلي والخارجي، ووفرت فرصة لإعادة بناء العلاقات الدولية من جديد، وهو ما استغلته الإدارة الأمريكية لتدشين مرحلة أكثر عملية تجاه سوريا.
مرحلة جديدة من التفاهم الحذر بين واشنطن ودمشق
زيارة الشرع ليست مجرد خطوة بروتوكولية، بل تمثل بداية لرسم مسار جديد للعلاقات.
واشنطن تبدو مستعدة لاختبار نموذج مختلف في تعاملها مع سوريا، بينما تُظهر دمشق رغبة في إعادة التموضع وتحقيق استقرار داخلي مدعوم بإعادة الإعمار وعودة العلاقات الدولية.
اللقاء المغلق بين الشرع وترامب يحمل في طياته إشارات إلى فتح ملفات أمنية واقتصادية وسياسية كبرى، وإعادة صياغة منظومة العلاقات بعد عقود من الصراع والعقوبات.
ومن المتوقع أن تشهد الأسابيع المقبلة تحركات دبلوماسية إضافية، سواء في الكونجرس أو في وزارة الخارجية الأمريكية، لتثبيت الخطوات التي جرى الاتفاق عليها خلال لقاء البيت الأبيض.
زيارة الشرع إلى واشنطن تسجل لحظة سياسية فارقة، وتضع سوريا على عتبة مرحلة دبلوماسية جديدة، قد تعيد رسم موقعها الإقليمي ودورها الدولي.
مشهد مغادرة الشرع للبيت الأبيض يفتح صفحة غير مسبوقة في العلاقات بين البلدين، ويمنح دمشق فرصة تاريخية للعودة إلى المسرح الدولي بعد عقد من الحرب والانهيار والقطيعة

