صياغة وأرقام وبلاغة.. مقال الدكتور مصطفي مدبولي في الميزان
في توقيت بالغ الحساسية، اختار رئيس مجلس الوزراء أن يخاطب الرأي العام بنفسه، عبر مقال تحليلي يشرح فيه قضية الدين العام، ليس بوصفها ملفًا ماليًا مجردًا، بل باعتبارها أحد أكثر التحديات التصاقًا بحياة المواطنين اليومية.
المقال جاء ليؤكد أن رئيس الوزراء لا يكتفي بإدارة الملفات من موقعه التنفيذي، بل يمتلك ثقافة اقتصادية وسياسية رفيعة، وقدرة نادرة على الكتابة الصحفية التحليلية التي تجمع بين العمق والوضوح.
ثقافة اقتصادية تتجاوز الأرقام
منذ السطور الأولى، يتضح أن المقال لا يتعامل مع الدين العام كجداول حسابية صماء، بل كقضية تمس القدرة المعيشية للمواطنين، وهو مدخل إنساني يعكس وعيًا اجتماعيًا واضحًا. رئيس الوزراء قدّم قراءة واقعية للضغوط التي يعيشها المواطن، واضعًا ملف الدين في سياقه الحقيقي، بعيدًا عن الإنكار أو التهوين.
ربط محكم بين المحلي والدولي
أحد أبرز ملامح المقال هو الربط الذكي بين الاقتصاد المصري والتقلبات العالمية، بدءًا من تداعيات جائحة 2020، مرورًا بصدمة التضخم العالمية، وصولًا إلى تشديد السياسات النقدية الدولية. هذا الربط يعكس ثقافة اقتصادية واسعة، وفهمًا دقيقًا لكيفية انتقال الأزمات عبر الحدود، وتأثيرها المباشر على الدول النامية، ويضع القارئ أمام صورة شاملة بعيدًا عن التفسيرات السطحية.
يحسب للمقال قدرته على شرح أدوات شديدة التعقيد بلغة مفهومة، دون إخلال بالمضمون، وهو ما نادرًا ما يتقنه مسؤول تنفيذي. فقد أوضح رئيس الوزراء التحول الاستراتيجي في هيكل الدين، بزيادة الاعتماد على الدين طويل الأجل، بما يمنح الدولة مرونة زمنية في إدارة مواردها، كما شرح مفهوم مبادلة الديون وتحويل الالتزامات إلى استثمارات، بوصفها أدوات ذكية لتخفيف الضغط وتحقيق عائد تنموي مستدام.
هذا الأسلوب يكشف عن مهارة كتابية واعية بطبيعة القارئ، وقدرة على تحويل المفاهيم المالية الجافة إلى أفكار قابلة للفهم والمتابعة.
لم يقع المقال في فخ التجميل أو التبرير، بل قدّم قراءة متوازنة تعترف بذروة الضغوط في خدمة الدين، دون أن تعتبرها دليل إخفاق، كما حذّر من قراءة التحسنات اللحظية باعتبارها نهاية للأزمة. هذه الموضوعية تعكس ثقافة سياسية ناضجة، وإدراكًا لطبيعة الرأي العام، وقدرة على مخاطبته بصدق دون إثارة القلق أو بيع أوهام.
الاقتصاد في خدمة الإنسان
من النقاط اللافتة في المقال ربطه الصريح بين السياسات الاقتصادية وبناء الإنسان، حيث رفض اختزال أزمة الدين في المشروعات القومية، مؤكدًا أن هذه المشروعات ترفع الإنتاجية، وتخفض كلفة المعيشة، وتدعم التعليم والصحة وفرص العمل. هذه الرؤية تكشف عن فهم شامل للتنمية، يتجاوز الحسابات المالية إلى التأثير الاجتماعي طويل المدى.
أسلوب يليق بصحفي محترف
على مستوى الصياغة، جاء المقال متماسكًا، واضح البناء، متدرج الأفكار، يجمع بين التحليل، والتفسير، واللغة كانت مباشرة وعميقة دون تعقيد، وهو ما يعكس قدرة نادرة لمسؤول تنفيذي على امتلاك أدوات الكتابة الصحفية الاحترافية، وليس الاكتفاء بالبيانات الرسمية التقليدية.

