الاستقالة الهادئة.. هل هي كسل أم إنذار مبكر للإرهاق الوظيفي؟
أصبح مصطلح «الاستقالة الهادئة» من أكثر المفاهيم تداولًا في بيئات العمل خلال الفترة الأخيرة، ويستخدم عادة لوصف الموظف الذي يختار عمدًا أداء الحد الأدنى من مهامه الوظيفية، دون العمل لساعات إضافية أو تحمّل مسؤوليات تفوق المطلوب منه.
غير أن علماء النفس يشيرون إلى أن هذا الانسحاب الصامت قد يكون في كثير من الأحيان علامة تحذيرية على مشكلة أعمق، وهي الإرهاق الوظيفي.
ولا يقتصر الإرهاق الوظيفي على الشعور العابر بالتعب، بل يُعد حالة نفسية وعاطفية تتطور تدريجيًا نتيجة التعرض المستمر للضغوط المهنية، وكثرة المتطلبات، وغياب فترات الراحة الكافية.
وغالبًا ما يتجلى هذا الإرهاق في شعور الموظف بالانفصال أو اللامبالاة تجاه عمله، وهو ما يعد مؤشرًا واضحًا على وجود خلل يحتاج إلى تدخل.
من الحماس إلى الانسحاب الصامت
قالت ديفيا ريدي، أخصائية علم النفس السريري أن «الاستقالة الهادئة قد تكون في بعض الأحيان وسيلة للحفاظ على الذات، وليست شكلًا من أشكال التمرد».
وأضافت أن هذا السلوك قد يعكس وصول الفرد إلى مرحلة من الإرهاق العقلي، ومحاولته استعادة التوازن والسيطرة على صحته النفسية والجسدية.
وأشارت ريدي إلى أن هذا الانفصال غالبًا ما يبدأ بشكل غير ملحوظ، من خلال تأجيل المهام، أو تجنب الاجتماعات، أو فقدان الاهتمام بتقييمات الأداء.
وما قد يبدأ كخطوة صحية لوضع حدود مهنية، يمكن أن يتحول بمرور الوقت إلى آلية للتكيف مع إرهاق شديد ومتراكم.
مؤشرات تحذيرية للإرهاق الوظيفي
وأكدت أن الاكتشاف المبكر لهذه العلامات قد يقي من مضاعفات نفسية خطيرة، موضحة أن أبرز المؤشرات تشمل:
الإرهاق العاطفي: الشعور بالاستنزاف المستمر حتى بعد فترات الراحة، أو التعب من أداء المهام الروتينية.
الانفصال أو السخرية: تنامي مشاعر اللامبالاة أو السلبية تجاه العمل أو الزملاء أو المؤسسة.
تراجع الإنتاجية: انخفاض ملحوظ في التركيز، والإبداع، والقدرة على حل المشكلات.
تقلبات المزاج: زيادة التهيج وسرعة الغضب، سواء في بيئة العمل أو في الحياة الشخصية.
أعراض جسدية مزمنة: مثل الصداع، واضطرابات النوم، ومشكلات الجهاز الهضمي، أو توتر العضلات.
وعندما تصبح هذه الأعراض متكررة وثابتة، يصبح من الضروري التوقف وإعادة تقييم الوضع، لتحديد ما إذا كانت «الاستقالة الهادئة» مجرد محاولة لوضع حدود، أم عرضًا لإرهاق نفسي عميق.
استعادة التوازن والمشاركة المهنية
وترى ديفيا ريدي أن الخطوة الأولى نحو التعافي تبدأ بالاعتراف بالمشكلة، مؤكدة أن «الإقرار بالإرهاق ليس ضعفًا، بل وعي ذاتي يساعد على اتخاذ قرارات تصحيحية قبل تفاقم الوضع».
وقدمت مجموعة من الخطوات العملية التي يوصي بها الخبراء، من بينها:
إعادة تقييم الأولويات: مراجعة الأهداف المهنية والشخصية، إذ غالبًا ما ينشأ الإرهاق من تعارض القيم مع طبيعة العمل اليومي.
طلب الدعم النفسي: الاستعانة بمعالج أو مستشار نفسي للتعامل مع مشاعر التوتر والانفصال بشكل مهني.
وضع حدود واضحة: تحديد ساعات العمل، والالتزام بفترات الراحة، وضمان أن تكون الإجازات فرصة حقيقية للتعافي.
إعادة التواصل مع المعنى: البحث عن جوانب في العمل تمنح شعورًا بالقيمة، مثل التعلم أو الإبداع أو العمل الجماعي.
ممارسة التعافي الواعي: من خلال أنشطة مثل كتابة اليوميات، أو اليوغا، أو تقليل استخدام الشاشات بعد ساعات العمل.

لا تعكس «الاستقالة الهادئة» بالضرورة كسلًا أو قلة التزام، بل قد تكون في كثير من الأحيان جرس إنذار لإرهاق عاطفي وعدم تلبية الاحتياجات النفسية.
ومن خلال الوعي المبكر بهذه العلامات، وتشجيع الحوار المفتوح داخل بيئات العمل، يمكن للموظفين وأصحاب المؤسسات معًا بناء نماذج عمل أكثر صحة واستدامة.