كنز غارق في الإسكندرية يكشف أسرار طبقة النخبة قبل 2000 عام ويثير الجدل التاريخي
في مشهد يعيد رسم خريطة الحضارة البحرية القديمة، أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية عن اكتشاف أثري ضخم قبالة سواحل الإسكندرية، تمثل في العثور على حطام سفينة رومانية ترفيهية يعود تاريخها إلى نحو ألفي عام.
الحدث، الذي أثار اهتمام الباحثين حول العالم، جاء ليضيف فصلاً جديدًا إلى سجل المدينة التي كانت لقرون طويلة بوابة المتوسط الثقافية ومركزًا عالميًا للتجارة والمعرفة منذ تأسيسها في العام 331 قبل الميلاد على يد الإسكندر الأكبر.
ويفتح هذا الاكتشاف الباب واسعًا أمام أسئلة جديدة حول نمط الحياة في العصر الروماني داخل مدينة كانت تُعد قلب الحضارة في حوض البحر المتوسط، خاصة فيما يتعلق بطبقة النخبة التي كانت تتمتع بوسائل ترفيه متقدمة قياسًا بما كان متعارفًا عليه في تلك العصور.
تفاصيل الحطام.. سفينة فاخرة بطول 35 متراً ومقصورة مزخرفة
وفقًا للبيانات الأولية التي كشف عنها المعهد، فإن السفينة المكتشفة تعود إلى القرن الأول الميلادي، وقد تم العثور عليها في ميناء جزيرة «أنتيرودوس» الغارقة قرب شواطئ الإسكندرية.
الجزيرة، التي كانت جزءًا من المنطقة الملكية في العصور القديمة، لطالما ارتبط اسمها بالكشف عن تماثيل ملكية وقطع أثرية من العهدين اليوناني والروماني.
السفينة، التي يزيد طولها على 35 مترًا وبعرض يقارب 7 أمتار، وُصفت بأنها من فئة “السفن الترفيهية”، حيث لم تكن معدّة للحرب أو التجارة. ولم تعتمد السفينة على الأشرعة، بل كانت تُشغل بالمجاذيف فقط، في دلالة على أنها صُممت للرحلات القصيرة داخل الميناء أو الجزر القريبة، وعلى الأرجح كانت مخصصة لطبقة الأثرياء أو الشخصيات الرسمية.
إحدى أهم المفاجآت كانت المقصورة المزخرفة داخل السفينة، والتي كشفت عن تصميم فاخر يعكس الذوق الفني والحرفي للنخبة الرومانية. كما عُثر على كتابات يونانية داخل بعض ألواح السفينة، وهي ما ساعد في تحديد الحقبة الزمنية بدقة، حيث ترجح أن تكون السفينة بُنيت في النصف الأول من القرن الأول الميلادي وتشير هذه الكتابات إلى حقبة تداخل فيها النفوذ الهيلينستي مع الحكم الروماني، مما جعل الإسكندرية مركزًا حضاريًا متنوعًا لغويًا وثقافيًا.
الجزيرة الغارقة.. سجل آثار يمتد لأكثر من ثلاثة عقود
منذ اكتشاف جزيرة أنتيرودوس عام 1996، سُجلت عشرات الاكتشافات المهمة، أبرزها تماثيل ضخمة لبطالمة ورموز دينية، إضافة إلى عملات نادرة وصوامع تخزين وقطع من معبد إيزيس الذي كان جزءًا من الطقوس الدينية في ذلك العصر كثير من هذه القطع يعرض الآن في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية بعد إعادة افتتاحه.
ويأتي هذا الاكتشاف البحري الجديد كحلقة مهمة في سلسلة طويلة من الأبحاث التي امتدت منذ تسعينيات القرن الماضي، ووضعت الإسكندرية على خريطة أهم مواقع الآثار الغارقة في العالم.
ويؤكد مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية، فرانك غوديو، أن «الحطام المكتشف يُعد نافذة نادرة لفهم تفاصيل الحياة اليومية في العصور القديمة، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل أيضًا من حيث الطقوس الدينية والثقافة المعيشية وطرق التنقل».
بين علم الآثار والتاريخ الاجتماعي: ماذا يخبرنا هذا الحطام؟
يرى الخبراء أن قيمة هذا الاكتشاف تتجاوز الجانب الأثري البحت، فهو لا يكشف فقط عن شكل السفن ونمط بنائها في ذلك العصر، بل يعكس درجة الثراء التي تمتعت بها طبقات المجتمع الروماني في الإسكندرية فمن وجود المقصورات المزخرفة، إلى طريقة تشغيل السفينة بالمجاذيف، يتضح أن الرحلات البحرية الترفيهية كانت جزءًا من الحياة اليومية للنخبة.
وتفتح الكتابات اليونانية المكتشفة الباب أمام تحليل أعمق، إذ تمثل تلك النصوص، مهما كانت قصيرة، مصدرًا مهمًا لفهم الثقافة السائدة، واللغة المستخدمة في التعاملات الرسمية أو حتى في الأدوات الشخصية.
ويعتبر الباحثون أن السفينة ربما كانت تُستخدم في مناسبات اجتماعية أو دينية، وربما كانت مملوكة لشخصية رفيعة المكانة في السلطة الرومانية داخل المدينة.
الإسكندرية والبحر.. مدينة تواجه خطر الغرق
رغم موقعها الاستراتيجي وتاريخها البحري الممتد لآلاف السنين، تواجه الإسكندرية في العصر الحالي خطراً وجوديًا بسبب الارتفاع المستمر في منسوب مياه البحر.
وتشير التقارير إلى أن مستوى المياه يرتفع بمعدل يتجاوز ثلاثة مليمترات سنويًا، بينما تتوقع الأمم المتحدة أن ثلث المدينة قد يصبح مغمورًا بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول عام 2050، إذا استمر هذا المعدل دون تدخلات إنقاذ فعّالة.
ويحذر علماء الآثار من أن الكنوز الغارقة، مثل هذا الحطام الأخير، قد تكون مهددة بالضياع إذا لم تُتخذ إجراءات جادة لحماية الشواطئ والمعالم التاريخية.
البحث العلمي مستمر.. وخطوة جديدة لفهم العالم القديم
يأمل فريق البحث أن يمهد هذا الاكتشاف الطريق أمام اكتشافات أخرى في المنطقة ذاتها، وأن يساعد في رسم صورة شبه مكتملة عن الحياة الرومانية داخل الموانئ المصرية، بما يشمل الأنشطة الاقتصادية والطقوس الدينية وحركة السفن.
ويؤكد العلماء أن حطام السفينة المكتشفة ليس مجرد بقايا خشبية في قاع البحر، بل وثيقة تاريخية متكاملة تعيد إحياء فترة مهمة من تاريخ البحر المتوسط. كما يمثل الاكتشاف فرصة للدعوة إلى حماية التراث البحري في مصر، في ظل التحديات البيئية المتزايدة.