رئيس مجلس الإدارة
رضا سالم
رئيس التحرير
نصر نعيم

هل يصلي الناس خوفًا لا حبًّا؟.. فتوى تثير الجدل حول نيات العبادة وصدق الإيمان

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

 

 

في مشهد يعكس عمق تساؤلات الناس حول نياتهم في العبادة ومقاصدهم في الطاعة، ورد إلى برنامج "فتاوى الناس" المذاع على قناة الناس سؤال من إحدى المتابعات يُثير قضية روحية دقيقة تتعلق بمقام الخوف في العبادة.
السائلة وفاء من دمياط قالت:

بيجيلي وسواس لما بصلي إني بعمل ده لمجرد خوف من ربنا، فهل لو بصلي خوفًا من الله مش باخد ثواب؟

سؤال بسيط في صياغته، لكنه يلامس واحدة من أعمق قضايا السلوك الإيماني: هل تُقبل العبادة إذا كان باعثها الخوف فقط؟
وهل الخوف من الله دليل ضعفٍ في الإيمان، أم علامة يقظة القلب وخشيته من المولى؟

الخوف من الله.. عبادة مقبولة وثوابها عظيم

الدكتور علي فخر، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، حسم الجدل مؤكدًا أن العبادة بدافع الخوف من الله لا تُسقط الأجر، بل يُثاب صاحبها ثوابًا كاملاً.
وأوضح أن هذا الخوف ليس نقيصةً في الإيمان، بل هو دليل وعيٍ وتعظيمٍ لله عز وجل، إذ إن المؤمن الحق هو من يستشعر رقابة ربه في كل فعلٍ وقول، فيخشاه ويتجنب معصيته.

وأضاف أمين الفتوى أن الله تعالى يثيب كل من أقبل عليه بإخلاصٍ وصدق، سواء كان الدافع الخوف من عقابه أو الرجاء في رحمته أو الحب له سبحانه، مستدلًا بقول الله تعالى:

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

وأكد الدكتور فخر أن الخوف مقام من مقامات العارفين، وهو المحرّك الأول للطاعة والدرع الذي يقي الإنسان من الغفلة، موضحًا أن من خاف الله في الدنيا أمَّنه الله يوم القيامة.

من عبادة الخوف إلى عبادة الحب.. ارتقاء الروح في طريق الله

ورغم تأكيده على قبول الصلاة القائمة على الخوف، دعا الدكتور فخر المسلمين إلى الارتقاء بعبادتهم من الخوف إلى الحب، معتبرًا أن الخوف بداية طريق السالكين، بينما الحب ذروة مقام العارفين.

وأوضح أن المؤمن كلما ازداد معرفةً بربه، ازداد حبًّا له، لأن المعرفة تثمر محبة، والمحبة تُثمر طاعة بلا رهبة.
وقال:

نعبد الله لا لأننا نخاف ناره، بل لأننا نشتاق إلى قربه، فالحب أرفع من الخوف، وهو المقام الذي يسعى إليه الصادقون في الطريق إلى الله.

واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم:

"أرحنا بها يا بلال"،
مشيرًا إلى أن هذه الكلمة العظيمة تُعبّر عن روح الحب في الصلاة، إذ لم يكن النبي يرى فيها واجبًا ثقيلًا، بل راحةً للقلب وطمأنينةً للروح

وأضاف أمين الفتوى أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من الصلاة موئلًا للسكينة، لا مجرد أداء شكلي، فهي لحظة لقاءٍ روحي بين العبد وربه، تنقله من ضجيج الدنيا إلى صفاء القرب.

وفي سياق حديثه عن معنى الراحة الحقيقية، أوضح الدكتور علي فخر أن الراحة الحقيقية ليست في النوم أو الطعام أو اللذة، بل في مناجاة الله بالصلاة، فهي غذاء الروح ودواء الهمّ وملاذ المتعبين.
واستشهد بقول بلال بن رباح رضي الله عنه حين كان يؤذن للفجر:

"الصلاة خيرٌ من النوم"

وبيّن أن هذه العبارة ليست مجرد نداء للاستيقاظ، بل دعوة للارتقاء من راحة الجسد إلى راحة القلب. فالنوم يسكن البدن، أما الصلاة فتُسكن الروح وتُنعش الضمير وتملأ القلب يقينًا.

وأكد أن من ذاق حلاوة الوقوف بين يدي الله لا يبحث بعدها عن لذةٍ أخرى، لأن الصلاة تمنحه سلامًا داخليًا لا تمنحه الدنيا بأسرها.

بين الخوف والرجاء.. جناحا الإيمان

انتقل أمين الفتوى للحديث عن العلاقة التكاملية بين الخوف والرجاء في العبادة، مبينًا أن المؤمن لا يستقيم حاله إلا إذا جمع بينهما.
وقال:

الخوف يمنعك من الوقوع في المعصية، والرجاء يدفعك إلى الطاعة، فهما جناحا الإيمان اللذان يطير بهما العبد إلى الله.


وأوضح أن المؤمن يخاف من تقصيره لكنه يرجو مغفرة ربه، فلا يغلب خوفه فيقنط، ولا يغلب رجاءه فيتهاون وهذه الموازنة هي ما تحفظ القلب من الانحراف وتجعله مطمئنًا في طاعته.

وأشار إلى أن الاعتدال بين الخوف والرجاء هو السمة المميزة لعبادة الأنبياء والصالحين، إذ يعيش العبد بين رهبة المولى ورغبة القرب منه، فيعبد بدموع الخوف وابتسامة الأمل معًا.

واستطرد الدكتور علي فخر موضحًا أن الخوف ليس نهاية الطريق إلى الله، بل بدايته، لأنه يفتح للعبد باب التوبة والإنابة، في حين أن المحبة هي غاية العارفين ومقام المقربين.
وقال:

من خاف الله عرفه، ومن عرفه أحبه، ومن أحبه لم يعبده إلا حبًّا وشوقًا.

وبيّن أن أعلى مراتب الإيمان أن يعبد الإنسان ربَّه حبًّا فيه، لا خوفًا من عقابه ولا طمعًا في جنته، مستشهدًا بقول السلف:

عبدناه حبًّا له، لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من ناره.

وأكد أن هذه المرحلة لا تُلغِي الخوف أو الرجاء، بل تجمعهما في قلب المحب الصادق الذي يرى في كل طاعة فرصةً للقرب من محبوبه.

الإخلاص.. ميزان القبول

وختم أمين الفتوى حديثه بالتأكيد على أن الإخلاص في النية هو أساس قبول العبادة، وليس نوع الدافع وحده.
وقال:

الله لا ينظر إلى الصور والأشكال، بل إلى القلوب وما فيها من صدقٍ وإخلاص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.

ودعا الدكتور فخر المسلمين إلى عدم الالتفات إلى وساوس الشيطان التي تزرع الشك في نياتهم، مؤكدًا أن الله لا يرد من أقبل عليه خائفًا أو محبًا أو راجيًا، ما دام قلبه مخلصًا في عبادته.

 

 

تم نسخ الرابط