هل يحق للإنسان اختيار جنس مولوده؟.. فتوى تشعل الجدل بين الطب والدين
في زمنٍ تتسارع فيه التطورات الطبية وتتداخل فيه الأسئلة الأخلاقية مع العلمية، عاد الجدل مجددًا حول قضية تحديد جنس المولود بين الجواز والمنع، خاصة في ظل تزايد الإقبال على تقنيات الإخصاب الصناعي واختيار الأجنة في بعض المجتمعات وفي هذا السياق، قدّم الدكتور علي فخر، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إجابةً وافية حول هذه المسألة الحساسة، موضحًا موقف الشرع من استخدام الوسائل العلمية لاختيار جنس الجنين، ومتى يكون هذا جائزًا أو محظورًا.
جاءت تصريحات أمين الفتوى ردًا على سؤال من سيدة تُدعى هيام من بورسعيد، وجهته إلى برنامج "فتاوى الناس" الذي يقدمه الإعلامي مهند السادات عبر قناة الناس، حيث سألت: "ما حكم تحديد جنس المولود؟"، وهو سؤال بات يتكرر كثيرًا مع تطور تقنيات الطب الحديث وقدرته على التأثير في عملية التخصيب واختيار نوع الجنين قبل الحمل.
الاختيار لا التحديد.. الفارق الذي يُغيّر الحكم الشرعي
بدأ الدكتور علي فخر بتوضيح جوهري، إذ أشار إلى أن الفقهاء فرّقوا بين "الاختيار" و"التحديد" في هذا الباب، مبينًا أن الخلط بينهما سبب كثيرًا من الجدل والالتباس في الأوساط الدينية والطبية.
وأوضح أن الاختيار يعني أن الطبيب يستخدم وسائل علمية معينة تساعد في ترجيح جنس المولود، كاختيار الحيوان المنوي أو البويضة الأنسب أثناء عملية التلقيح الصناعي أما التحديد فيُقصد به التحكم الكامل في نوع الجنين بإلغاء أي تدخل للمشيئة الإلهية في النتيجة، وكأن الإنسان يستطيع أن يُملي على القدر اختياره، وهو ما لا يملكه أحد من الخلق.
وأكد أمين الفتوى أن الفرق بين الحالتين يمس جوهر العقيدة والإيمان، لأن الاختيار يبقى ضمن الأسباب المادية التي أتاحها الله لعباده وسخّرها لهم، بينما التحديد يحمل في طيّاته ادعاءً ضمنيًا لمزاحمة الخالق في قدره، وهو أمر لا يقبله الشرع ولا العقل.
الشرع لا يمنع الطب.. ولكن بشروط
وفي سياق فتواه، شدّد الدكتور علي فخر على أن استخدام الوسائل الطبية الحديثة لتحديد جنس المولود جائز شرعًا إذا كان يتم في نطاقٍ محدودٍ ولأسبابٍ مشروعةٍ ومفهومة، لا سيّما في الحالات الخاصة التي يعاني فيها الزوجان من وضعٍ أسريٍّ غير متوازن.
وقال: "لا حرج أن يرغب الأبوان في إنجاب مولود من الجنس الآخر إذا كان لديهما أبناء من نوعٍ واحدٍ فقط، فهذا أمر فطري لتحقيق التوازن الأسري، ولا ينهى الشرع عنه ما دام لا يُصاحبه اعتقادٌ فاسدٌ أو تجاوزٌ لمشيئة الله".
وأوضح أن جواز هذا النوع من التدخل الطبي مرتبطٌ بشرطين أساسيين:
1. أن يكون في حالات فردية وليست ظاهرة عامة، أي أن لا يتحول إلى سلوكٍ اجتماعيٍ جماعيٍ يخلّ بالتوازن الطبيعي بين الذكور والإناث.
2. أن تُراعى فيه الضوابط الأخلاقية والشرعية، فلا يتضمن إتلافًا للأجنة أو تلاعبًا في الخلق أو تعديًا على مقاصد الله في الخلق والتكوين.
ولم يكتفِ أمين الفتوى بتوضيح الجواز في الحالات الفردية، بل حذّر بشدة من تحوّل تحديد جنس المولود إلى ظاهرة اجتماعية عامة يسعى فيها الناس جميعًا لاختيار الذكور أو الإناث وفق أهوائهم أو اعتباراتهم الاقتصادية أو الثقافية.
وقال فخر إن مثل هذه الظاهرة تُعدّ محرّمة شرعًا لأنها تفضي إلى اختلالٍ اجتماعيٍّ واضح وتُخلّ بالتوازن الذي أوجده الله في الكون، مشيرًا إلى أن الإسلام جعل التنوّع بين الذكر والأنثى من سنن الله الكونية التي لا يجوز العبث بها.
وأضاف أن المجتمعات التي اتجهت في فترات سابقة إلى تفضيل الذكور على الإناث واجهت كوارث ديموغرافية واجتماعية لاحقًا، وهو ما يُظهر حكمة الإسلام في تحريم كل ما يؤدي إلى إخلالٍ في ميزان الحياة
الطب والدين.. تكامل لا تصادم
وفي تأكيدٍ على التوافق بين العلم والدين، قال الدكتور علي فخر إن الأطباء والفقهاء متفقون على أن أي وسيلة علمية أو تقنية تُستخدم في هذا السياق يجب أن تكون ضمن الإطار الأخلاقي والشرعي.
وأوضح أن الإسلام لا يعارض العلم ولا يقف في وجه التقدم الطبي، بل يشجع على البحث والمعرفة ما دامت في حدود المباح، مضيفًا أن الإيمان لا يعني تعطيل الأسباب، بل استخدامَها دون أن تُصبح بديلاً عن التوكل على الله.
وأكد قائلًا:
"كل ما نفعله من أسباب هو مجرد سعي في حدود ما أذن الله به، أما الخلق ذاته والنتيجة النهائية فهما من تقدير الله وحده، لأن الله هو الخالق الوهاب الذي قال في كتابه الكريم:
﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾".
بين التقدم العلمي ومشيئة الخالق
اختتم أمين الفتوى حديثه بالتأكيد على أن الوسائل العلمية الحديثة لا تُنافي الإيمان بالله، طالما أنها تُستخدم في حدود الأسباب المادية التي أتاحها الله لعباده.
وأشار إلى أن على المسلمين أن يجمعوا بين الإيمان بالقدر واتخاذ الأسباب المشروعة، مؤكدًا أن العلاقة بين العلم والدين ليست علاقة صراع بل علاقة تكميل وتعاون.
وقال الدكتور علي فخر إن كل ما توصّل إليه العلم من تطورٍ في مجال الأجنة والتلقيح الاصطناعي يدخل في إطار سنن الله في الكون، لأن الله أذن لعباده بالاكتشاف والبحث، لكن لا يجوز أن يتحوّل العلم إلى وسيلةٍ لادعاء القدرة على التحكم في الغيب أو منافسة إرادة الخالق.