مفتي الجمهورية: الإسلام رسالة رحمة ووحدة إنسانية تُعيد للعالم توازنه المفقود
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الفكرية وتتزاحم فيه المفاهيم المغلوطة عن الدين، جاءت كلمة فضيلة الأستاذ الدكتور نظير محمد عياد، مفتي جمهورية مصر العربية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، لتشكل خريطة فكرية متكاملة تعيد ضبط بوصلة الوعي الديني.
الندوة التي نظمتها كلية أصول الدين بجامعة الأزهر تحت عنوان «منهجية عرض صحيح الإسلام في المحافل الدولية تجربة ذاتية»، تحولت إلى منصة فكرية مفتوحة تناول فيها فضيلة المفتي جوهر الإسلام كدين رحمة ووحدة، مؤكدًا أن الأديان لم تُبعث لتقسيم البشر، بل لتوحيدهم على قيم العدل والرحمة والصدق.
تحديات فكرية تهدد الخطاب الإسلامي المعاصر
استهل المفتي كلمته بتشخيص الواقع الفكري العالمي، مشيرًا إلى أن الدعوة الإسلامية تواجه اليوم ثلاثة تيارات متناقضة في خطرها:
الأول هو الفكر الاستشراقي المتعصب الذي يقتطع من الإسلام أجزاءً ليشوه كليته، والثاني هو الفكر اللاديني الذي يسعى لإقصاء الوحي عن الحياة، والثالث هو الفكر المتطرف الذي انحرف عن وسطية الدين فأساء إليه من داخله.
وبيّن أن هذه التيارات أنتجت ظواهر مؤلمة مثل تصاعد موجات الإسلاموفوبيا، وخطابات الكراهية والعنف، وهي ظواهر تقوّض الأمن الإنساني وتقسم المجتمعات، داعيًا إلى موقف علمي ودعوي موحد يواجه هذه التحديات بالحجة والعقل لا بالعنف والانفعال.
المؤسسات الدينية.. درع الأمة وحصن وعيها
أكد فضيلة المفتي أن المؤسسات الدينية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، يقع على عاتقها واجب مزدوج: الدفاع عن صورة الإسلام وتصحيح المفاهيم المغلوطة عنه في المحافل الدولية، مع تقديم نموذج للحوار الحضاري القائم على العلم والانفتاح.
وأشار إلى أن المنهج الأزهري، بتاريخه الممتد لأكثر من ألف عام، يمثل نموذجًا متوازنًا يجمع بين الأصالة والتجديد، مستمدًا قوته من تراث فقهي وفكري يكرّس الرحمة وينبذ الغلو.
في محور حديثه عن أهمية الحوار، شدّد فضيلة المفتي على أن الله سبحانه وتعالى جعل الحوار أساسًا للتعارف الإنساني، مستشهدًا بسنة الأنبياء التي قامت على النقاش بالحكمة والموعظة الحسنة.
وأشار إلى أن الأزمة ليست في غياب الدين، بل في غياب الحوار الحقيقي، موضحًا أن التاريخ أثبت أن كل فترات الازدهار الإنساني كانت ثمرة حوار حضاري راقٍ جمع بين العقول والقلوب.
الأديان رسائل وحدة لا أدوات فرقة
أكد مفتي الجمهورية أن الأديان السماوية جميعها تلتقي على مقاصد الرحمة والوحدة، وأن تحويلها إلى أدوات صراع أو كراهية خروجٌ عن جوهرها.
وقال إن الحوار ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لحفظ السلام الإنساني، داعيًا إلى مواجهة محاولات تسييس الدين أو استغلاله لإشعال الصراعات، ومشيرًا إلى أن مواجهة حملات التشويه تتطلب تعاونًا دوليًا يوازن بين حرية الرأي واحترام المقدسات
عرض الإسلام في المحافل الدولية.. علم ورحمة
تحدث المفتي عن تجربته في عرض الإسلام في المؤتمرات الدولية، مؤكدًا أن الخطاب الإسلامي لا ينجح إلا إذا انطلق من رؤية علمية واعية ومنهج قوامه الرحمة والاحترام المتبادل.
وأضاف أن الإسلام قدّم منظومة قيم متكاملة تحفظ كرامة الإنسان وتضمن أمنه واستقراره، مستشهدًا بقول الله تعالى:
«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
وأشار إلى أن هذه الرحمة لا تقتصر على المسلمين، بل تمتد لتشمل الإنسانية كلها، فهي جوهر الرسالة المحمدية.
العدالة والمساواة.. منارة الرسالة الإسلامية
توقف المفتي عند مفهوم العدالة في الإسلام، موضحًا أنها لا تقتصر على الحقوق السياسية أو الاجتماعية، بل تشمل الإنسان في كل تفاصيل حياته.
واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن ربكم واحد وأباكم واحد، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».
وأكد أن الإسلام ألغى كل أشكال التمييز الطبقي والعنصري، وأقام ميزان الكرامة على أساس التقوى والعمل الصالح، وهي رسالة يحتاجها العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى.
أوضح المفتي أن الإسلام دعا إلى التعارف الإنساني والحضاري لا إلى الصراع، مستدلًا بقول الله تعالى:
«وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا».
وبيّن أن هذا التعارف ليس مجرد معرفة شكلية، بل هو تفاعل ثقافي وبناء مشترك، يسهم في التنمية والاستقرار.
وانتقد المفاهيم الغربية التي تروّج لفكرة «صدام الحضارات»، مشيرًا إلى أن هذه النظريات لا تختلف في جوهرها عن الفكر المتطرف، فكلاهما يقوم على الإقصاء لا التواصل.
خصص المفتي جانبًا من كلمته للحديث عن مكانة المرأة في الإسلام، مؤكدًا أن الدين الحنيف منحها مكانة سامية وشراكة كاملة في البناء الإنساني.
وقال إن قوامة الرجل على المرأة ليست تسلطًا بل رعاية ومسؤولية، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:
«استوصوا بالنساء خيرًا».
وأضاف أن أي فكر ينتقص من مكانة المرأة أو يحرمها من حقوقها المشروعة هو فكر دخيل لا يمتّ للإسلام بصلة.
التطرف والإسلاموفوبيا.. وجهان لعملة واحدة
تناول المفتي في محور بالغ الأهمية العلاقة بين التطرف من الداخل والإسلاموفوبيا من الخارج، مشيرًا إلى أن كليهما يشوّه صورة الإسلام ويغذي الآخر.
وأوضح أن الجماعات المتشددة أساءت فهم النصوص الشرعية فأنتجت خطابًا دمويًا يبرر القتل باسم الدين، في حين تبنت تيارات يمينية في الغرب خطابًا معاديًا للمسلمين يصوّرهم كخطر على الحضارة.
ودعا المفتي إلى تكامل الجهود بين المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية لتصحيح الصورة الذهنية ومواجهة موجات الكراهية بخطاب واثق وعلمي.
الحضارة الإسلامية.. توازن بين العقل والوحي
أكد فضيلة المفتي أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة تواصل لا صدام، لأنها قامت على التوازن بين المادة والروح، والعقل والوحي.
وأوضح أن الإسلام نقل الخير إلى العالم أينما حلّ، وأصلح ما فسد في المجتمعات، مشيرًا إلى أن جوهر رسالته هو البناء لا الهدم، والإصلاح لا الصراع، مستشهدًا بقوله تعالى:
«كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله».
تجديد الخطاب الدعوي.. لغة العصر لا ترف التغيير
اختتم المفتي كلمته بدعوة صريحة إلى تجديد أساليب الدعوة بما يتلاءم مع طبيعة العصر الرقمي وتنوع الثقافات، مؤكدًا أن الدعوة الناجحة هي التي تترجم القيم الإسلامية إلى لغة إنسانية قريبة من الناس.
وضرب مثالًا بتجربة دعوية في كينيا، حيث أُسيء فهم الإسلام بسبب ضعف التواصل الثقافي، مشددًا على أن المشكلة ليست في الدين، بل في طريقة عرضه.
وقال إن الإسلام لا يحمل ما يُخجل، وإنما يُساء إليه حين يُقدَّم بأسلوب منغلق أو متشدد، داعيًا إلى خطاب عالمي يجمع بين العلم، والرحمة، والتسامح.