الأزهر وملك بلجيكا.. حوار من أجل إنسانية تجمع العالم
في مشهد إنساني وروحي يعكس عمق تأثير الأزهر الشريف وريادته الفكرية، استقبل فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اليوم السبت بمقر المشيخة، جلالة الملك فيليب، ملك مملكة بلجيكا، الذي يقوم بزيارة رسمية إلى مصر لحضور حفل افتتاح المتحف المصري الكبير، أضخم مشروع حضاري وثقافي في العصر الحديث.
اللقاء الذي جمع بين رمزين من رموز الحكمة والسلام في الشرق والغرب، حمل طابعًا يتجاوز البروتوكولات الرسمية، ليؤكد أن الأزهر لا يزال قلب العالم الإسلامي النابض بالحوار، ومنارة مضيئة للتفاهم بين الشعوب والأديان، ومنبرًا للتقارب الإنساني في زمن يموج بالتحديات والانقسامات.
ورحب الإمام الأكبر بملك بلجيكا في رحاب الأزهر الشريف، مؤكدًا أن هذه المؤسسة العريقة تمثل حصنًا للفكر الوسطي، وحاضنة للحوار بين أتباع الأديان والثقافات.
وأوضح فضيلته أن الأزهر يستقبل سنويًا آلاف الطلاب من أكثر من مائة دولة، ليكونوا بعد تخرجهم رسل سلام وسفراء للتسامح في بلدانهم، يحملون رسالة الأزهر التي تجمع بين العلم والإيمان، وبين العقل والضمير.
وثيقة الأخوة الإنسانية.. خريطة طريق لإنقاذ الإنسان من أزمات العصر
وفي حديثه مع ملك بلجيكا، سلط الإمام الأكبر الضوء على وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقّعها مع قداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية عام 2019 في أبوظبي، معتبرًا أنها واحدة من أهم الوثائق الإنسانية في التاريخ المعاصر، لأنها لم تأتِ كتفاهم ديني فحسب، بل كمشروع إنقاذٍ للعالم من موجات التطرف والعنف والتفكك القيمي.
وقال فضيلته إن الوثيقة جاءت استجابة لتحديات العصر، بعد أن تزايدت الصراعات باسم الدين، مشددًا على أنها دليل أخلاقي عالمي يرسم طريقًا نحو مستقبل يسوده التعاون والرحمة واحترام الإنسان.
وأضاف أن الأزهر يعمل على تحويل مبادئ الوثيقة إلى واقع ملموس عبر مبادرات تعليمية وثقافية ومشروعات حوارية، تهدف إلى توعية الأجيال الجديدة بأهمية السلام المشترك.
وأوضح الطيب أن روح الوثيقة تنبع من جوهر الإسلام، الذي جعل كرامة الإنسان مقدسة، ودعا إلى التعارف والتعاون بين الأمم، لا إلى الصراع والتناحر.
وأكد أن الأزهر سيظل شريكًا فاعلًا في تفعيل مبادئ هذه الوثيقة على المستوى الدولي، بالتعاون مع المؤسسات الدينية الكبرى، وفي مقدمتها الفاتيكان.
مواجهة التطرف بالفكر.. والأزهر حصن الاعتدال
وفي إطار الحديث عن قضايا الفكر والتطرف، أكد الإمام الأكبر أن الأزهر الشريف لم يقف صامتًا أمام محاولات الجماعات المتشددة التي شوهت صورة الإسلام، مشيرًا إلى أن الأزهر اختار أن يواجه الفكر المنحرف بالفكر المستنير لا بالعنف.
وأشار فضيلته إلى تأسيس مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الذي يعمل بـ13 لغة لمتابعة الفكر المتطرف والرد عليه علميًا، وإنشاء مركز الحوار العالمي لتقوية العلاقات بين الأديان والثقافات، إضافة إلى الأكاديمية العالمية لتدريب الأئمة والوعاظ، التي تهدف إلى إعداد دعاة معتدلين من مختلف دول العالم.
وأكد شيخ الأزهر أن رسالة الأزهر لا تقوم على مجابهة الخصومة بالخصومة، بل على نشر النور في وجه الظلام، موضحًا أن الإسلام الحقيقي يدعو إلى الرحمة والعلم والعمل، وأن الأزهر سيظل الحصن المنيع الذي يحمي هوية الأمة من دعاوى الانحراف والغلو.
ملك بلجيكا يشيد بجهود الإمام الأكبر
من جانبه، عبّر جلالة الملك فيليب عن تقديره الكبير لشيخ الأزهر الشريف، مشيدًا بدوره القيادي في نشر ثقافة السلام والحوار العالمي. وقال الملك إن الأزهر الشريف يمثل مؤسسة استثنائية في تأثيرها، تجمع بين العلم والدين والضمير الإنساني، وتقدم نموذجًا فريدًا في إدارة الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة.
وأعرب جلالته عن سعادته البالغة بالوجود في رحاب الأزهر الشريف، واعتزازه بلقاء الإمام الأكبر الذي وصفه بـ"رمز السلام والعقلانية في العالم الإسلامي".
وأكد أن بلجيكا تتابع باهتمام مبادرات الأزهر في مكافحة التطرف ونشر التسامح، معتبرًا أن صوت الأزهر هو من الأصوات التي يحتاجها العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى.
وأضاف ملك بلجيكا أن الحوار الديني ليس ترفًا فكريًا، بل هو ضرورة لحماية المجتمعات من الانقسام والكراهية، وأنه لا يمكن للعالم أن يعيش في سلام دون تفاهم حقيقي بين أتباع الأديان، مشيدًا بما تقوم به مصر والأزهر من جهود رائدة في هذا المجال.
وأكد الجانبان خلال اللقاء أن الديانات السماوية تملك مفاتيح الحلول لأزمات العالم، وأن التعاون بين المؤسسات الدينية الكبرى كالأزهر الشريف والفاتيكان وسائر الكنائس الأوروبية يمثل نقطة تحول في مسار العلاقات الإنسانية.
واتفق الطرفان على أهمية ترجمة القيم الأخلاقية والدينية إلى برامج تعليمية وثقافية تغرس في الأجيال الشابة روح التسامح، وتقيهم الانغلاق الفكري والتعصب. كما ناقشا سبل التعاون بين الأزهر والمؤسسات التعليمية في بلجيكا، وتبادل الخبرات في مجالات التعليم والبحث العلمي والحوار الثقافي.
وأشار الإمام الأكبر إلى أن الأزهر مستعد لمدّ جسور التعاون مع الجامعات والمراكز البلجيكية، من أجل بناء شراكات فكرية وثقافية قائمة على الاحترام المتبادل، مؤكداً أن المعرفة والحوار هما جناحا السلام الحقيقي.
الأزهر الشريف.. منارة تجمع الشرق والغرب
يمثل هذا اللقاء فصلًا جديدًا في مسيرة الأزهر الشريف كجسر يربط بين الحضارات، ومركزًا روحيًا عالميًا للحوار. فمن توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية في أبوظبي، إلى مؤتمرات السلام في الفاتيكان والأمم المتحدة، يواصل الأزهر أداء رسالته التي تتجاوز الحدود واللغات: أن الإنسان قيمة مطلقة، وأن السلام سبيل النجاة.