قصة المساجد في مصر.. تاريخٌ من نورٍ وعمارةٍ وعبادة

في قلب التاريخ، وعلى ضفاف النيل الخالد، تقف المساجد المصرية شامخةً كالشهود على حضارةٍ امتدت لأكثر من أربعة عشر قرنًا هنا في أرض الكنانة، حيث مرَّ الأنبياء والرسل، الثقافات، وتجاورت الأديان، وُلدت واحدة من أعرق الحكايات في العالم الإسلامي: حكاية المساجد في مصر.
لم تكن المساجد مجرد مبانٍ للعبادة، بل مؤسسات جامعة، خرجت منها ثورات، وتأسست فيها الدول، وتعلّم في رحابها العلماء والفقهاء والمفسرون والمجاهدون.
من جامع عمرو بن العاص إلى جامع الأزهر ومسجد السلطان حسن ومحمد علي، تتجسد مسيرة الإسلام على أرضٍ باركها الله، فقال تعالى:
{ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99].
جامع عمرو بن العاص.. البداية التي أنارت الطريق
كانت البداية مع عمرو بن العاص رضي الله عنه، قائد الفتح الإسلامي لمصر عام 21 هـ، الذي أسس أول مسجد في القارة الإفريقية والعالم العربي خارج الجزيرة العربية، في قلب الفسطاط.
لم يكن المسجد مجرد مكان للصلاة، بل كان بيتًا للحكم، ومدرسةً للعلم، ومركزًا للشورى والإدارة.
بناه الصحابة من الطوب اللبن وسعف النخيل، دون زخرفة أو مئذنة، ليجسد البساطة التي اتسم بها الإسلام في مراحله الأولى.
ومن هذا المسجد انطلقت الدعوة إلى الإسلام في ربوع إفريقيا، فكان بحقٍّ منارة التوحيد الأولى في القارة.
قال النبي ﷺ:
«من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة» (رواه البخاري ومسلم).
وهكذا كان عمرو بن العاص أول من سنّ سنة بناء المساجد في أرض مصر، ليغدو مسجده حجر الأساس لكل ما تلاه من صروح إيمانية.
العصر الفاطمي.. حين أصبح الأزهر منبر الفكر والعقيدة
مع دخول الفاطميين إلى مصر عام 358 هـ، بدأ فصل جديد في تاريخ العمارة الإسلامية والتعليم الديني.
أمر الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القائد جوهر الصقلي ببناء مسجد يكون مركزًا للدعوة الفاطمية، فكان الجامع الأزهر عام 972م، الذي لم يلبث أن تحوّل إلى جامعة إسلامية عالمية.
الأزهر لم يكن فقط منبرًا للمذهب الشيعي آنذاك، بل بعد دخول مصر تحت حكم صلاح الدين الأيوبي، أصبح منبرًا لأهل السنة والجماعة، ومؤسسة علمية مستقلة تخرّج منها العلماء والدعاة الذين حملوا نور الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها.
وقد قال الله تعالى في وصف بيوت العلم والذكر:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
فكان الأزهر من تلك البيوت التي رفعها الله بذكره وعلمه، لتبقى منارة الإسلام الأولى في العالم على مدى ألف عام.
المساجد في عصر الأيوبيين والمماليك.. قلاع إيمانٍ وعلمٍ وجهاد
جاءت الدولة الأيوبية لتعيد لمصر هويتها السنية، فأنشأ صلاح الدين الأيوبي العديد من المدارس والمساجد لتدريس علوم الشريعة والفقه على مذهب أهل السنة.
ومن أبرز تلك المساجد المدرسة الصالحية التي بناها ابنه الملك الكامل، والتي كانت جامعةً للعلم والجهاد في آنٍ واحد.
ثم جاء المماليك، فحوّلوا القاهرة إلى مدينة المآذن.
شيّدوا المساجد الكبرى التي ما زالت إلى اليوم تُعد من روائع الفن الإسلامي، مثل:
مسجد السلطان حسن: تحفة معمارية تُدهش الناظرين، جمع بين جمال الفن وقوة العقيدة، حيث ارتفع كمئذنةٍ للعزة الإسلامية.
مسجد قايتباي والظاهر بيبرس والناصر محمد، وهي مساجد كانت بمثابة قلاع روحية في مواجهة الغزاة والمغولين، ومراكز لتعليم القرآن والفقه واللغة.
كانت المآذن في تلك العصور تُبنى عاليةً لتعلن أن الإسلام باقٍ لا يزول، وأن الأذان لن يسكت مهما تبدلت الدول.
وفي ذلك تجسيد لقوله تعالى:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114].
العصر العثماني.. ازدهار الفن الإسلامي وتجدد العمارة
مع دخول العثمانيين إلى مصر عام 1517م، ازدهرت عمارة المساجد بأسلوبٍ جديدٍ يمزج بين الروح الشرقية والفن البيزنطي.
برز مسجد محمد علي في قلعة صلاح الدين كأيقونةٍ لهذا العصر، إذ جمع بين الفخامة والرمزية الدينية والسياسية.
كانت قبته الكبيرة ومآذنه الرفيعة تعلن أن مصر ما زالت قلب العالم الإسلامي النابض، وأنها تحمل رسالة الخلافة رغم تغير العصور.
كما ظهر مسجد سنان باشا وسليمان باشا الخادم وغيرهما من المساجد التي تحولت إلى مدارس ومكتبات وملجأ للفقراء، تطبيقًا لقول النبي ﷺ:
«أحب البلاد إلى الله مساجدها» (رواه مسلم).
المساجد الحديثة.. بين التاريخ والهوية
في العصر الحديث، استمر بناء المساجد في مصر بوتيرةٍ متسارعة، فظهرت مآذن جديدة تحمل روح التراث بملامح معاصرة، مثل مسجد الماسة بالعلمين ومسجد مصر بالعاصمة الإدارية، الذي يُعد من أكبر المساجد في العالم الإسلامي.
ورغم التغيرات السياسية والاجتماعية، ما زالت المساجد تحتفظ بدورها التربوي والروحي، إذ يقف الأئمة والعلماء في مواجهة التطرف والانحراف الفكري، مستلهمين رسالة النبي ﷺ:
«إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
المسجد في الوجدان المصري.. هوية لا تزول
منذ أن رُفع الأذان لأول مرة في الفسطاط، والمصريون يرتبطون بالمساجد ارتباطًا روحيًا وثقافيًا.
فهي ليست فقط مكانًا للصلاة، بل رمزٌ للهوية الإسلامية والوحدة الوطنية، وملتقى للأفراح وذاكرةٌ للأمة تسكن وجدانها.
إن كل مسجد في مصر، من جامع عمرو بن العاص إلى الأزهر والسلطان حسن ومحمد علي، يحكي قصة جيلٍ من المؤمنين الذين رفعوا راية «لا إله إلا الله» فوق مآذنهم، ليُثبتوا أن الإسلام لم يكن دينًا منغلقًا، بل حضارةً تنير الطريق للإنسانية كلها.