طريقة علمية جديدة تكشف أسرار الذهب المدفون في أعماق الأرض
في تطور علمي لافت قد يعيد رسم خريطة البحث عن الذهب حول العالم، توصّل فريق دولي من العلماء إلى اكتشاف طريقة جديدة وغير تقليدية لتحديد مواقع الذهب المدفون في أعماق الأرض، اعتمادًا على تحليل كيميائي دقيق للغازات المحتجزة داخل الصخور منذ ملايين السنين هذا الاكتشاف لا يكتفي فقط بالإجابة عن تساؤلات طالما حيّرت علماء الجيولوجيا بشأن أصل الذهب، بل يفتح في الوقت نفسه آفاقًا جديدة أمام شركات التعدين والباحثين في علوم الأرض.
الدراسة الحديثة، التي أُجريت على رواسب الذهب الموجودة تحت أراضي اسكتلندا وأيرلندا، كشفت أن مصدر الذهب أعمق بكثير مما كان يُعتقد سابقًا، وأن للوشاح الأرضي دورًا حاسمًا في تكوين هذه الثروات المعدنية، عبر آليات جيولوجية معقدة ظلت غامضة لعقود طويلة.
تحليل كيميائي غير مسبوق.. الغازات تحكي قصة الذهب
قاد الدراسة البروفيسور فين ستيوارت، أستاذ علوم الأرض بجامعة غلاسكو، حيث اعتمد فريقه البحثي على تقنية متقدمة تُعرف باسم تحليل مطياف الكتلة، وهي أداة دقيقة تُستخدم لتحديد التركيب النظائري للغازات والعناصر الكيميائية.
ركزت الدراسة على تحليل معادن الكبريتيد الحاملة للذهب داخل سلسلة جبال كاليدونيا، وهي واحدة من أقدم السلاسل الجبلية في أوروبا ومن خلال فحص الغازات المحبوسة داخل هذه المعادن، والتي تعود إلى ملايين السنين، تمكّن العلماء من تتبع “البصمة الكيميائية” التي تكشف أصل السوائل المعدنية المسؤولة عن تكوين رواسب الذهب.
النتائج جاءت حاسمة: الذهب لم يتكوّن فقط نتيجة تفاعلات قشرية سطحية، بل نشأ في أعماق الأرض، داخل الوشاح، قبل أن تنتقل السوائل المعدنية الغنية به إلى أعلى عبر الشقوق والصدوع الجيولوجية.
الهيليوم.. الدليل الخفي القادم من أعماق الأرض
أحد أبرز مفاتيح هذا الاكتشاف تمثّل في دراسة نظائر الهيليوم، وهو غاز نادر يُعد بمثابة “شاهد جيولوجي” على العمليات العميقة داخل كوكب الأرض فقد أوضح الباحثون أن وجود نسب معينة من نظائر الهيليوم داخل سوائل الخام يشير بشكل مباشر إلى مصدرها من الوشاح الأرضي، وليس من القشرة فقط كما كان يُعتقد سابقًا.
وبتحليل بيانات عدد من المناجم النشطة في جبال كاليدونيا، من بينها مناجم كونونيش، كوراغينالت وكافاناكاو، عثر الفريق البحثي على بصمات نظيرية واضحة تدل على حدوث انصهار في الوشاح. هذا الانصهار، وفق الدراسة، كان العامل الأساسي في توليد الحرارة اللازمة لدفع السوائل المعدنية المحمّلة بالذهب نحو الطبقات العليا من القشرة الأرضية.
حزام كاليدونيا.. مسرح جيولوجي لولادة الذهب
تمثل سلسلة جبال كاليدونيا، التي تمتد لمسافة تقارب 1800 كيلومتر من جبال الأبلاش في أمريكا الشمالية وصولًا إلى شمال النرويج، واحدة من أهم المسارح الجيولوجية التي شهدت نشاطًا تكتونيًا هائلًا في الماضي السحيق.
يعود تاريخ هذا الحزام الجيولوجي إلى فترة اصطدام الصفائح القارية القديمة قبل ما بين 490 و390 مليون سنة، وهي مرحلة شهدت ضغوطًا وحرارة عالية أسهمت في تشكّل رواسب معدنية ضخمة، من بينها الذهب.
وتشير الدراسة إلى أن النشاط الجيولوجي المصاحب لانصهار الوشاح أسفل الصفائح القشرية لعب دورًا محوريًا في تركيز الذهب داخل شقوق وصخور هذا الحزام، ما جعله أحد أهم مناطق البحث عن المعدن النفيس في أوروبا.
جدل علمي قديم.. واكتشاف يحسم الخلاف
لطالما انقسم علماء الجيولوجيا حول سؤال جوهري: هل تنشأ المعادن النفيسة، وعلى رأسها الذهب، في أعماق الوشاح، أم أنها تتحرك بفعل سوائل ساخنة ناتجة عن العمليات التكتونية في القشرة الأرضية؟
الاكتشاف الجديد لا ينفي دور القشرة، لكنه يمنح الوشاح الأرضي مكانة مركزية في هذه العملية. فوجود بصمات نظيرية للهيليوم يُعد مؤشرًا قويًا على أن المصدر الأساسي للحرارة والسوائل المعدنية هو أعماق الأرض، وليس فقط التفاعلات السطحية.
هذا التفسير الجديد قد يساهم في إنهاء جدل علمي استمر لعقود، ويقدّم نموذجًا أكثر شمولًا لفهم كيفية تشكّل أنظمة المعادن على نطاق عالمي.
مؤشر جديد للبحث عن الذهب المدفون
الأهمية العملية لهذا الاكتشاف لا تقل عن قيمته العلمية. فقد أظهرت النتائج أن هناك علاقة طردية بين نسبة الهيليوم في سوائل الخام ودرجة حرارة هذه السوائل، من جهة، وبين حجم رواسب الذهب المكتشفة، من جهة أخرى.
بمعنى آخر، كلما زادت إشارات الهيليوم القادمة من الوشاح، ارتفعت احتمالات وجود رواسب ذهبية كبيرة.
هذا المؤشر الجيولوجي الكيميائي الجديد يمكن أن يُستخدم مستقبلاً كأداة فعّالة لتوجيه عمليات التنقيب، بدل الاعتماد على الحفر العشوائي أو التخمين الجيولوجي التقليدي.

