نصر نعيم يكتب: هذه غير تلك
«خطفة سياسية».. أقلّ ما يمكن وصفه به منشورُ الرئيس السيسي المفاجئ على فيسبوك اليوم، والحقيقة أن تلك «الخطفة» لم تكن تخطر ببال أحد أو محلّ توقّع من أيٍّ منّا، إذ لم يسبق أن تدخلت مؤسسة الرئاسة في سير استحقاقٍ انتخابي من قبل؛ ما يفيد بأنّ التقارير التي وصلت إلى قصر الاتحادية كانت كافية لتحرّك الرئيس العاجل، ومن المخالفات ما استدعى توجيهات مباشرة على حسابه الرسمي بدلًا من القنوات العادية.
ما الذي وصل إلى أسماع الرئيس من أحداثٍ شابت العملية الانتخابية في مرحلتها الأولى؟ لا أحد يعرف تحديدًا، لكن من دون الحاجة إلى خيال، فقد احتوت تلك التقارير — التي تأتي بالطبع من مصادر موثوقة ورفيعة المستوى — على صور ومشاهد لا يمكن السكوت عنها، مهما كان ضيق الوقت وضغط الجداول الزمنية المعتمدة، لكن الرؤية السياسية بعيدة المدى للرئيس السيسي استوعبت جيدًا أن «ما بُني على باطل فهو باطل»، وأنه لن تُعاد «مغامرات» سياسية سابقة؛ فهذه غير تلك.
مالم يستوعبه بعض أساطين الأحزاب وغيرهم الآن أن مصر اليوم صارت دولة مؤسسات، وأن رئيس الدولة يتابع كل شاردة وواردة، وفوق كل مؤسسة ألف عين، وفي كل هيئةٍ رقيب، فلا تُترك الأمور على عواهنها، ولا يُسمح للهوى والمصالح الضيقة بأن تشوّه وجه الجمهورية الجديدة، كما أن القيادة السياسية لن تسمح بتلويث النهضة المصرية في كل المجالات بـ«مراهقة سياسية» غير مبررة،... فلا شيء تخشاه الدولة من إثارة الفتنة في انتخابات تريدها الدولة نفسها نزيهة ولا شبهة فيها، إذًا، مَن صاحبُ المصلحة في تزوير إرادة الناخبين والطعن في مصداقية كل ما يجري على أرض مصر من جهدٍ فوق طاقة البشر لبناء دولة قوية عفية في زمن قياسي، في منطقة مليئة بالفتن؟.
«لن يأتي نائب إلى البرلمان إلا بإرادة الناخبين».. عبارةٌ متأخرة قالها رئيس الهيئة الوطنية للانتخابات في مؤتمره العاجل، ولو قالها قبل تحرّك الرئيس لحُسبت له «حسنة»، لكنه انتظر حتى هبّت العاصفة من قصر الرئاسة، وتشجّع المصريون، وكلٌّ أدلى بدلوه لتظهر تفاصيل غريبة عمّا جرى في بعض لجان الفردي بالمرحلة الأولى، ولم يكن رئيس الهيئة في حاجة إلى الاعتراف بأنّ هناك طعونًا ومخالفات حدثت بالفعل، فقد كانت نبرة الصوت المرتبكة دليلًا دامغًا، على الهواء مباشرة، على أنّ هناك «خطوبًا» وليس «خطبًا واحدًا» جرت في الدوائر الانتخابية بمحافظات المرحلة الأولى.
اللجنة الوطنية للانتخابات قالت إن كل مخالفة سوف تُفحص بدقة، ولو وصل الأمر إلى إلغاء انتخابات المرحلة الأولى بأكملها فسوف تتخذ القرار دون تردد، وهي جرأة لم تنل الكثير من الإعجاب لأنها أتت أيضًا بعد تعليمات الرئيس بإلغاء الانتخابات كليًّا أو جزئيًا إذا لم تعبّر النتائج عن إرادة الناخبين... وهنا يقفز التساؤل ماذا لو لم يتدخل الرئيس؟ والقوس مفتوح للتوقعات والإجابات..
بدون دفن الرؤوس في الرمال.. كل الشواهد وتدخل الرئيس تقول إن ثمة مخالفات — مهما كانت درجتها (جسيمة، متوسطة، متعمدة، غير مقصودة) — لم تجد ردود فعل قوية في حينها، لدرجة أن مرشحًا كشف كارثة في إحدى اللجان في بثّ مباشر، وقدّم طعنًا بعد أن طاف الفيديو في فضاء السوشيال ميديا. وإذا كان هذا المرشح قد وثق المخالفة الجسيمة، فهناك مخالفات لم تنل نصيبها من الانتشار لكنها جاءت في صرخات مكتومة في هيئة منشوراتٍ لمواطنين وفيديوهات رأي، وكان يكفي فيها التحرك السريع لإخماد النار وغلق أبواب الشياطين في الانتخابات البرلمانية.
أي عملية سياسية أو انتخابات في العالم وارد فيها التجاوز والخطأ والسهو، لكن بنسب «آمنة» عالميًا، وأن تكون استثناءً وليس قاعدة، وعزف نشاز للحنٍ وطني جميل. ليس هذا وقت تعليق المشانق، بقدر ما هو فرصة عاجلة لتصحيح الأخطاء، ونشر كل التفاصيل بلا مواربة، ووضع الصورة كاملةً من دون فلتر أو عمليات تجميل، حتى يغفر الناس وتنتهي التجاوزات، ويعيد الجميع — من أحزاب ومرشحين وحكومة — حساباته قبل فوات الأوان، خاصة أنّ التجارب تؤكد أن الاستخفاف بإرادة المصريين له عواقب وخيمة.