رئيس مجلس الإدارة
رضا سالم
رئيس التحرير
نصر نعيم

فى ذكرى رحيله.. عبد الفتاح الشعشاعي القارئ الذي أبكى المآذن وأسكن القلوب إلى الأبد

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

في كل عام، ومع حلول الحادي عشر من نوفمبر، يتجدّد الحنين في وجدان الأمة الإسلامية إلى صوتٍ لم يخفت نوره، ولم يُمحَ صداه من ذاكرة السامعين، إنه الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، أحد أعمدة دولة التلاوة المصرية، وصاحب الأداء القرآني الذي جمع بين الروحانية والهيبة، وبين الفن والإيمان.

كان الشعشاعي أكثر من مجرد قارئٍ للقرآن الكريم؛ كان مدرسة متكاملة أخرجت أجيالًا من القراء، ومثالًا للفنان المؤمن الذي جعل من صوته جسرًا يصل به الناس إلى معاني القرآن العميقة. وفي ذكرى رحيله، تعود الحكاية إلى بداياته في قريةٍ صغيرة حملت للعالم أحد أنقى الأصوات التي عبرت التاريخ دون أن يبهت صداها.

من قرية شعشاع إلى أفق التلاوة.. مولد نجمٍ قرآني

وُلد الشيخ عبد الفتاح محمود الشعشاعي في 21 مارس عام 1890 بقرية شعشاع التابعة لمركز أشمون بمحافظة المنوفية، في بيئةٍ ريفيةٍ يملؤها الإيمان، حيث كان القرآن زينة المجالس ونور البيوت.

ونشأ في كنف والده الشيخ محمود الشعشاعي الذي غرس في قلبه منذ الصغر حبّ كتاب الله، فحفظ القرآن كاملًا وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، لتبدأ من تلك اللحظة رحلة طفلٍ كُتب له أن يكون منارات التلاوة في العصر الحديث.

واصل الشيخ الصغير طريق العلم، فانتقل إلى مدينة طنطا حيث المسجد الأحمدي ليتعلم أحكام التجويد وأصول القراءة الصحيحة على أيدي علماء الأزهر، قبل أن يشد الرحال إلى القاهرة عام 1914، ليلتحق بالأزهر الشريف، ويدرس القراءات السبع والعشر على كبار العلماء مثل الشيخ بيومي والشيخ علي سبيع، الذين شهدوا له بالنبوغ المبكر وصفاء الصوت وصدق الأداء.

لم يكن صعود الشيخ الشعشاعي إلى قمة التلاوة مصادفة، بل جاء نتيجة جهدٍ متواصل وصوتٍ استثنائي بدأ يلفت الأنظار في أحياء القاهرة القديمة، وخاصة في حي الدرب الأحمر.

هناك، بدأ الناس يتحدثون عن هذا الشاب القادم من المنوفية، بصوتٍ يجمع بين الخشوع والوقار، وبين الحنان والقوة ومع مرور الوقت، صار اسمه يتردد إلى جوار عمالقة تلك المرحلة مثل الشيخ محمد رفعت والشيخ علي محمود، وبدأت ملامح مدرسة الشعشاعي تتشكل في الأفق.

الانطلاقة الكبرى.. الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين

كانت الليلة الختامية لمولد الإمام الحسين بالقاهرة محطة التحوّل الكبرى في حياة الشيخ الشعشاعي.
في تلك الليلة، جلس كبار القراء على المنصّة يتلون كتاب الله أمام الآلاف، حتى جاء دوره، فصعد بخطواتٍ واثقة وبدأ يتلو بخشوعٍ جعل الحاضرين في صمتٍ مهيب.

تردّد صوته بين أروقة المسجد كأنه نداءٌ سماوي، وحين أنهى تلاوته، ارتفعت همهمات الإعجاب، وتحوّل اسمه في تلك الليلة إلى عنوان جديد لفن التلاوة في مصر.

ومنها، انطلقت شهرته في أنحاء البلاد، وبدأت الصحف الدينية تتحدث عن “القارئ القادم من المنوفية بصوتٍ من الجنة”.

من التواشيح إلى التلاوة.. قرار غيّر مسار التاريخ

لم يبدأ الشيخ الشعشاعي حياته قارئًا للقرآن فقط، بل كان في البداية منشدًا للتواشيح الدينية، وأسس فرقة كبيرة في القاهرة ضمت عددًا من أبرز المنشدين، بينهم الشيخ زكريا أحمد.

لكن القدر كان يُعد له طريقًا آخر، إذ أُصيب في حنجرته عام 1930 بمرضٍ أجبره على ترك فن التواشيح، فاتخذ قراره المصيري: التفرغ الكامل لتلاوة القرآن الكريم.

هذا التحول كان بمثابة نقطة الانطلاق الحقيقية لمسيرته الخالدة وعلى الرغم من ابتعاده عن الإنشاد، ظل وفيًّا لرفاقه القدامى، وكان يخصص لهم رواتب شهرية حتى آخر حياتهم، في موقفٍ يجسّد الكرم الإنساني ووفاء القلوب، كما يعكس معدن الرجل الذي عاش متواضعًا رغم ما ناله من شهرةٍ ومكانة.

مع انطلاق الإذاعة المصرية عام 1934، بدأت الدولة في اختيار الأصوات القرآنية التي تمثلها.

كان الشيخ الشعشاعي من أوائل المرشحين، لكنه رفض في البداية تلاوة القرآن عبر الميكروفون، معتقدًا أن ذلك لا يليق بقدسية التلاوة.

غير أن صدور فتوى من كبار العلماء أجازت استخدام الوسائل الحديثة في نشر القرآن، جعله يعيد النظر في الأمر، فقبل الانضمام إلى الإذاعة ليصبح ثاني قارئ بعد الشيخ محمد رفعت.

نال راتبًا سنويًا قدره 500 جنيه، وهو مبلغ كبير في ذلك الزمن، وسجّل للإذاعة أكثر من 400 تلاوة لا تزال تبث حتى اليوم، لتصبح من أندر الكنوز الصوتية في تاريخ التلاوة المصرية.

ومن خلال الأثير، صار صوت الشعشاعي ضيفًا يوميًا على بيوت المصريين، يفتتح صباحاتهم ويملأ لياليهم بالسكينة والإيمان.

من القاهرة إلى الحرمين.. صوت السماء يعانق الأرض

لم تبقَ شهرة الشعشاعي حبيسة حدود مصر، بل امتدت إلى كل أرجاء العالم الإسلامي.

ففي عام 1948، كان أول من تلا القرآن الكريم بمكبرات الصوت في المسجد الحرام والمسجد النبوي ووقفة عرفات، في تجربةٍ غير مسبوقة خلّدت اسمه في ذاكرة الحجاج إلى الأبد.

ثم سافر إلى العراق أعوام 1954 و1958 و1961، حيث استُقبل استقبال الملوك في بغداد والبصرة، وقرأ في أكبر المحافل الإسلامية بحضور كبار العلماء والمقرئين كما زار سوريا ولبنان والسودان، وكان أينما حلّ يجد الجماهير تنتظره لتستمع إلى صوته الذي يُقال إنه يمزج بين الجلال الرباني والحنين الإنساني.


التكريم الرسمي.. وسام العلماء وصوت الأمة

نال الشيخ الشعشاعي تقديرًا رسميًا من الدولة المصرية، وحصل على أوسمة من وزارة الأوقاف تقديرًا لدوره في نشر التلاوة وإحياء فن الأداء القرآني.

ورغم وفاته عام 1962، فإن الدولة لم تنسَ فضله، فكرّمته عام 1990 بمنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، اعترافًا بمكانته كأحد مؤسسي مدرسة التلاوة المصرية الحديثة، وصوتٍ شكل وجدان الأمة لسنوات طويلة.

الإنسان قبل القارئ.. تواضعٌ ووفاءٌ ومحبّة

لم يكن الشيخ الشعشاعي عالمًا منعزلًا أو متقوقعًا في محرابه، بل كان إنسانًا ودودًا قريبًا من الجميع.
ربطته علاقات صداقة وثيقة مع رموز الفن المصري مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانا يقدّران فنه القرآني باعتباره مدرسة في التحكم بالنغمة والإيقاع دون موسيقى.

كما كانت له مكانة خاصة لدى رموز السياسة، فقرأ في جنازات سعد زغلول وعدلي يكن ومحمد محمود باشا، فصار صوته حاضرًا في لحظات الوداع الوطني، يسكب الطمأنينة في قلوب الباكين.

الرحيل الهادئ.. وبقاء الصوت في وجدان الأمة

في يوم 11 نوفمبر 1962، أغمض الشيخ الشعشاعي عينيه مودّعًا الدنيا عن عمر ناهز 72 عامًا، بعد مسيرةٍ حافلة بخدمة كتاب الله ونشر رسالته في القلوب قبل الآذان.

تم نسخ الرابط