الشرع في الكرملين والأسد في الظل.. موسكو تكتب فصلاً جديداً في تاريخ سوريا

وصول الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الروسية موسكو شكّل حدثاً سياسياً بالغ الأهمية، يعكس تحوّلاً واضحاً في المشهد السوري بعد الإطاحة ببشار الأسد.

فقد استُقبل الشرع في قصر الكرملين من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أول لقاء رسمي بين البلدين منذ تغيّر السلطة في دمشق، ما فتح الباب واسعاً أمام مرحلة جديدة من العلاقات بين موسكو ودمشق.

اللقاء بين الرئيسين حمل رسائل عميقة حول مستقبل التعاون المشترك، وسط حديث عن إعادة رسم خريطة المصالح الاستراتيجية بين البلدين، بما يضمن استقلال القرار السوري، ويحافظ في الوقت ذاته على الشراكة التاريخية التي جمعت موسكو ودمشق لعقود طويلة.

بوتين يشيد بالعلاقات المميزة والشرع يتحدث عن استقلال السيادة
الاجتماع بين الرئيسين تميّز بلغة صريحة وتوجهات واضحة.
فقد عبّر الرئيس أحمد الشرع عن رغبة بلاده في إعادة تعريف طبيعة العلاقات السورية الروسية، مؤكداً أن المرحلة المقبلة ستقوم على أساس السيادة الوطنية ووحدة الأراضي السورية.
وقال الشرع خلال اللقاء: "نريد أن نعيد تعريف العلاقات على نحو يضمن استقلال القرار السوري، واستقرار البلاد ووحدتها الأمنية والسياسية."

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جانبه، وصف العلاقات بين البلدين بأنها مميزة، مؤكداً أنها تطورت على مدى عقود طويلة من التعاون المتبادل في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
وأضاف بوتين: "مصالح الشعب السوري هي التي تحركنا دائماً، ونحن نرى في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة خطوة إيجابية نحو الاستقرار."
مطالب جديدة وتوازنات دقيقة في الملفات الحساسة
مصادر سورية رسمية كشفت أن اللقاء تناول ملفات حساسة أبرزها مستقبل القواعد الروسية في سوريا، وعلى رأسها قاعدتا طرطوس البحرية وحميميم الجوية، إلى جانب مناقشة التعاون في إعادة تسليح الجيش السوري الجديد.
وأكد مصدر حكومي لوكالة فرانس برس أن الرئيس الشرع سيطلب رسمياً من موسكو تسليم الرئيس السابق بشار الأسد، الذي لجأ إليها بعد سقوط نظامه، لمحاسبته على ما وصفها بأنها "جرائم ضد السوريين".
اللقاء أشار أيضاً إلى وجود توجه لإعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية بين البلدين، خاصة في مجالات الطاقة والغذاء، حيث أشار الشرع إلى أن "جزءاً كبيراً من الغذاء السوري يعتمد على الإنتاج الروسي، وكثير من محطات الطاقة تعتمد على الخبرات الروسية".
موسكو بين ضمان القواعد واستمرار النفوذ
المصادر ذاتها أكدت أن روسيا تسعى من خلال هذه المباحثات إلى ضمان مستقبل وجودها العسكري في سوريا، عبر الحفاظ على قاعدتيها في طرطوس وحميميم، وهما الوجودان العسكريان الوحيدان لها خارج نطاق الاتحاد السوفياتي السابق.
ورغم سقوط النظام السابق، فإن موسكو تحاول الحفاظ على نفوذها في الساحة السورية الجديدة، من خلال التعاون الأمني والعسكري وتقديم الدعم الدبلوماسي للسلطات الجديدة في مواجهة الهجمات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية.
قبل الكرملين كانت نيويورك.. الشرع يعيد سوريا إلى الساحة الدولية
التحركات السياسية للرئيس أحمد الشرع لم تقتصر على موسكو فقط. فقبل زيارته لروسيا، شارك في قمة كونكورديا العالمية في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في لحظة دبلوماسية وُصفت بأنها "الأهم منذ ستة عقود".
الشرع استغل هذا الظهور الدولي ليبعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، مؤكدًا أن سوريا اليوم "انتقلت من ساحات الحروب إلى ساحات الحوار"، وأن الشعب السوري يقف خلف قيادته الجديدة لبناء سوريا الحديثة.
وفي لقائه اللافت مع مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية السابق، الجنرال ديفيد بتريوس، بدا واضحاً أن صفحة جديدة تُفتح بين دمشق ودوائر القرار الدولي.
رسالة إلى المجتمع الدولي: ارفعوا العقوبات وانتظروا النتائج
الرئيس الشرع شدد في كلمته على أن سوريا لم تعد ساحة صراع بقدر ما أصبحت نموذجاً للسعي نحو الاستقرار والتنمية.
وقال: ورثنا كثيراً من الفوضى ولسنا سحَرة لحل كل شيء دفعة واحدة، لكننا نعمل بإخلاص لتحقيق ذلك.
وأضاف أن التنمية الاقتصادية والاستقرار الأمني يسيران جنباً إلى جنب، داعياً المجتمع الدولي إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا، قائلاً: "ارفعوا العقوبات وانتظروا النتائج."
مرحلة جديدة بين دمشق وموسكو
المشهد الحالي يعكس بداية فصل جديد في العلاقات بين سوريا وروسيا.

من الأسد الراقد في مستشفى روسي إلى الشرع الجالس في قاعة الكرملين، تتجسد التحولات الكبرى التي تعيشها دمشق اليوم، وسط آمال بأن تحمل هذه المرحلة ملامح سوريا مختلفة أكثر استقلالاً، وأقرب إلى التوازن في تحالفاتها، وأشد حرصاً على استعادة مكانتها الإقليمية والدولية.