باقي علي افتتاح المتحف الكبير
  • يوم
  • ساعة
  • دقيقة
  • ثانية
رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

الأزهر.. قلعة الوسطية التي تتحدى موجات التطرف والتغريب

الأزهر الشريف
الأزهر الشريف

في قلب القاهرة القديمة، حيث تختلط أنفاس التاريخ بأصوات المآذن، يقف الجامع الأزهر الشريف شامخًا كأنه يروي قصة الأمة الإسلامية منذ ألف عام لا يكتفي الأزهر بأن يكون مسجدًا تُقام فيه الصلوات، بل هو مدرسة للأجيال، ومنارة للفكر، وحصن للهوية الإسلامية التي قاومت عواصف السياسة والفكر عبر العصور.

منه انطلقت الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وفي أروقته اجتمع العلماء والطلاب من كل أقطار العالم الإسلامي، بحثًا عن النور والهداية وبين جدرانه العتيقة تتردد كلمات الله، كما تتردد أنفاس التاريخ في كل ركن وزاوية.
قال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]،
وكأن الآية نزلت تصف الأزهر، الذي رفعه الله بعلمه، وخلّده بذكره، وجعله منارة للعلم والإيمان إلى يوم الدين.

النشأة والتأسيس: جوهرة في تاج القاهرة الفاطمية

بدأت قصة الجامع الأزهر عام 972م (361هـ) حين أمر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله قائده جوهر الصقلي ببناء مسجدٍ جامعٍ في العاصمة الجديدة القاهرة وقد أُطلق عليه اسم الأزهر تيمّنًا بالسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، رمز النقاء والطهر في آل بيت النبي ﷺ.
منذ أول صلاة أقيمت فيه، كان واضحًا أن الأزهر لن يكون مسجدًا عاديًا فقد أُقيمت فيه حلقات العلم إلى جانب حلقات الذكر، واجتمع فيه العلماء لتدريس الفقه والقرآن واللغة والفلسفة.
ومع مرور السنين، أصبحت أروقته جامعةً مفتوحة أمام الجميع، دون تمييز بين عربي أو أعجمي، فقير أو غني، مما رسّخ قيم المساواة والعلم لوجه الله.

الأزهر والعبادة.. بيت الله الذي لا يخلو من الذاكرين

يتميّز الأزهر بأنه بيت عبادة لا ينقطع فيه ذكر الله منذ أكثر من عشرة قرون تتردّد فيه آيات القرآن ليلًا ونهارًا، وتُقام فيه الصلوات والجُمَع، ويُحيي فيه العلماء والطلاب ليالي رمضان بالقيام والدعاء.
يقول الله تعالى:

{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وقد كان الأزهر تجسيدًا لهذا المعنى، فكل من زاره أحسّ بخشوع المكان وروحانيته، التي تصافح القلب قبل العين.
وفي ساحاته يجتمع المصلّون من شتّى الجنسيات، يرفعون الدعاء في مشهدٍ يوحّد القلوب على ذكر الله، كما يوحّد العقول على حب العلم.

الأزهر والتعليم.. من الكتّاب إلى الجامعة العالمية

منذ القرن الرابع الهجري، اتخذ الأزهر أسلوبًا فريدًا في التعليم يعتمد على المجالس العلمية التي تُعقد في أروقته يجلس الشيخ في حلقته، يحيط به طلاب العلم حاملين ألواحهم وكتبهم، يتلقّون الدروس في الفقه والحديث والتفسير واللغة والمنطق والفلك.
وكان الطالب لا يُمنح شهادة إلا بعد أن يُجيزه شيخه علميًا وأخلاقيًا، وهي عادة سبقت مفهوم “الجامعة” بقرون.
ومع مرور الوقت، توسّع التعليم الأزهري، حتى أصبح الأزهر جامعةً عالمية، تستقبل طلابًا من أكثر من مائة دولة، وتضم اليوم مئات الكليات والمعاهد التي تجمع بين العلوم الشرعية والحديثة.

الأزهر في جوهره يجسد حديث النبي ﷺ:
«طلب العلم فريضة على كل مسلم» (رواه ابن ماجه).
فهو بيتٌ يُقدّس العلم كعبادة، ويعتبر المعرفة طريقًا إلى التقوى والسمو الإنساني.

 

الأزهر ومقاومة الاستعمار.. منبر الجهاد والفكر الحر

عندما تعرّضت الأمة الإسلامية للغزو الخارجي، كان الأزهر أول من انتفض.
ففي الحملة الفرنسية على مصر (1798م)، وقف علماء الأزهر وقفة عزّ، فأصدروا الفتاوى التي حرّكت الشعب للجهاد، وقادوا الثورات في الأزقّة والميادين. وكان الشيخ عبد الله الشرقاوي وعمر مكرم من أبرز رموز تلك المقاومة التي هزّت الاحتلال.
كما قاوم الأزهر الاستعمار الفكري والثقافي الذي حاول طمس هوية الأمة، فواجه موجات التغريب والإلحاد بالدليل والعقل والمنطق.
وهكذا تحقّق قول الله تعالى:

{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52]،
أي بالقرآن والعلم والحجة فكان جهاد الأزهر جهاد علمٍ لا سلاح، وكلمةٍ لا رصاصة.

الأزهر والوسطية

الأزهر هو منبع الفكر الوسطي الذي جمع بين المذاهب الأربعة دون تعصّب، وبين النقل والعقل دون صدام.
ففي أروقته يجلس الطالب على مذهب الشافعي بجانب زميله الحنفي أو المالكي أو الحنبلي، في وحدة فكرية نادرة.
وقد تبنّى الأزهر مبدأ الوسطية والاعتدال تطبيقًا لقوله تعالى:

{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]،
فكان حائط الصدّ الأول أمام التطرف والغلوّ في الدين.
كما عمل على نشر ثقافة التسامح الديني والحوار الإنساني، فاستضاف مؤتمرات للحوار بين الأديان، وأطلق مبادرات للسلام العالمي، تأكيدًا لقيمة الرحمة التي جاء بها الإسلام.

العمارة الإسلامية للأزهر.. مآذن تتحدّث بلغة التاريخ

من الناحية المعمارية، يُعد الجامع الأزهر تحفةً فنيةً نادرةً في فن العمارة الإسلامية تتعدد مآذنه الخمس التي بُنيت في عصور مختلفة، تمثل الفاطمي والمملوكي والعثماني، لتروي قصة الفن الإسلامي عبر العصور.
والأروقة المزخرفة، والمحراب البديع، كلها تشهد على روعة الفن الإسلامي وتفاني الحرفيين المصريين الذين جعلوا من الحجر لغة تنطق بالروح والإيمان.
وفي صحن المسجد، حيث تتقاطع الظلال مع أشعة الشمس، تجد الطلاب يقرؤون دروسهم وكأنهم على صلة مباشرة بتاريخٍ لم ينقطع

الأزهر في العصر الحديث.. عقل الأمة النابض

في القرن العشرين وما بعده، واصل الأزهر دوره كعقلٍ مفكّر للأمة. فقد أسس مؤسسات علمية ودعوية كبرى مثل:

هيئة كبار العلماء التي تضم نخبة فقهاء العالم الإسلامي.

مجمع البحوث الإسلامية لنشر الفقه الوسطي ومواجهة الفكر المتطرف.

مرصد الأزهر العالمي لمكافحة التطرف الذي يردّ على الأفكار المنحرفة في الإعلام الرقمي.
كما أطلق الأزهر مبادرات دولية للتقريب بين المذاهب، وتعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، مما جعله صوتًا عالميًا للسلام.

لم يغفل الأزهر عن دور المرأة في نهضة المجتمع، ففتح أبوابه أمام الفتيات لتلقي التعليم الشرعي والعلمي على السواء.
وتخرّجت من جامعة الأزهر عالمات وداعيات حملن رسالة التنوير والوعي، تأكيدًا لقوله ﷺ:

«النساء شقائق الرجال» (رواه الترمذي).
فالأزهر يرى أن المرأة شريكة في بناء الأمة، وأن تعليمها عبادة ورسالة.

الأزهر والهوية المصرية.. الانتماء والإصلاح

منذ نشأته، كان الأزهر صوت مصر الإسلامي الصافي في ثورتي 1919 و1952 كان لعلمائه دور وطني بارز، حين ارتفعت مآذنه بالدعاء للحرية والعدل.
وفي الأزمات، ظل الأزهر مرجعية الشعب، يلجأ إليه الناس في النوازل والمحن فالعلماء كانوا دومًا “ضمير الأمة” الذين يوازنون بين الدين والوطن، بين العقيدة والواقع.

 


 

تم نسخ الرابط