تعدد الزوجات يشعل جدلًا لا ينطفئ.. بين إباحة النصوص ورفض الواقع
تعدد الزوجات من قضايا الأسرة التي تثير جدلاً واسعًا فهي من الأحكام الشرعية التي ورد ذكرها صراحة في القرآن الكريم، لكنها في الوقت ذاته تظل موضع نقاش متجدد بين مؤيد يرى فيها حكمة إلهية ورحمة بالعباد، ومعارض يعتبرها سببًا للتوتر الأسري وتراجع الاستقرار الاجتماعي.
وفي زمن تغيّرت فيه أوضاع المرأة، وتبدلت فيه الموازين الاقتصادية والاجتماعية، يتساءل الكثيرون: هل ما زال تعدد الزوجات مناسبًا لزماننا؟ وكيف يمكن التوفيق بين النص الشرعي ومقتضيات الواقع؟ وهل الأمر متاح مطلقًا أم مشروط بضوابط دقيقة قد يغفل عنها البعض؟
في هذا التقرير يرصد موقع تفصيلة حكمة التشريع الإسلامي في إقرار التعدد، ثم يتناول التحديات الواقعية والاجتماعية، في محاولة للإجابة عن أسئلة لا تنقطع.
ورد ذكر تعدد الزوجات في القرآن الكريم بوضوح في قوله تعالى: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: 3].
أولًا: إباحة مشروطة لا مطلقة
النص القرآني وضع مبدأ الإباحة المقيدة بالعدل فالتعدد جائز لكنه مشروط بالقدرة على العدل بين الزوجات في النفقة والمعاملة والحقوق، وهذا يعني أن التعدد ليس واجبًا ولا سنة مؤكدة، بل رخصة قد تُمارَس في ظروف محددة.
ثانيًا: حماية المجتمع من الانحراف
من أبرز الحكم التي ذكرها العلماء:
معالجة مشكلة كثرة النساء مقارنة بالرجال في بعض المجتمعات بسبب الحروب أو الوفيات، مما يترك عددًا من النساء بلا عائل أو زوج.
توفير الحماية للمرأة التي قد تجد نفسها بلا معيل أو عرضة للوقوع في الحرام.
إشباع الغريزة الفطرية للرجل بطرق مشروعة تحفظ الأنساب وتغلق أبواب الانحراف.
ثالثًا: قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"
رغم الإباحة، فإن الشرع وضع قاعدة عامة مفادها أن أي ممارسة للتعدد إذا ترتب عليها ظلم أو أذى لأي طرف، تصبح مرفوضة شرعًا. فالعدل شرط أصيل، بدونه يتحول التعدد من نعمة إلى نقمة.
التعدد في السيرة النبوية قدوة أم خصوصية؟
يستشهد أنصار التعدد بسيرة النبي ﷺ الذي جمع بين أكثر من زوجة، وكان مثالًا في العدل والرحمة. ومع ذلك، يشير العلماء إلى أن بعض زواج النبي كان لاعتبارات تشريعية واجتماعية خاصة، مثل تكريم بعض الصحابيات أو توثيق الروابط بين القبائل.
ويُستدل أيضًا بحديث النبي ﷺ: "من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل" (رواه أبو داود والنسائي)، وهو دليل على خطورة عدم العدل بين الزوجات.
تحديات الواقع بين النصوص والتطبيق
إذا كان التشريع الإلهي واضحًا في حكمته وضوابطه، فإن الواقع اليوم يكشف عن تحديات كبرى:
1. العدل الغائب
كثير من الرجال يقدمون على الزواج بأخرى دون القدرة الحقيقية على العدل، سواء في النفقة أو المشاعر أو الوقت وهذا يؤدي إلى ظلم الزوجة الأولى وتفكك الأسرة، وهو ما حذّر منه القرآن صراحة.
2. الضغوط الاقتصادية
في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة وارتفاع تكاليف الزواج، يشكك البعض في قدرة الرجل المعاصر على تحمل أعباء زوجتين أو أكثر. فكيف يمكن لمن يعجز عن تلبية متطلبات بيت واحد أن يقيم أكثر من بيت؟
3. الانعكاسات النفسية والاجتماعية
تُظهر الدراسات أن التعدد قد يولّد شعورًا بالغيرة الشديدة بين الزوجات، ويؤثر سلبًا على الأبناء الذين قد يعيشون حالة من الانقسام بين بيوت متعددة، كما قد ينعكس على الاستقرار النفسي للزوجة الأولى التي ترى في زواج زوجها عليها خيانة لمشاعرها.
4. صورة المرأة
يرى بعض الناشطين أن التعدد في العصر الحديث قد يُستخدم بشكل خاطئ، ليُحوّل المرأة إلى مجرد أداة لإشباع رغبات الرجل، بعيدًا عن الحكمة التي أرادها الشرع من التكافل والرحمة.
الرؤية الرسمية والقانونية
القانون المصري لم يمنع التعدد، لكنه وضع بعض الضوابط:
الرجل الذي يرغب في الزواج بأخرى يجب أن يُخطر الزوجة الأولى رسميًا.
يحق للزوجة طلب الطلاق إذا أثبتت أن التعدد سبب لها ضررًا ماديًا أو معنويًا.
المحاكم كثيرًا ما تنظر في دعاوى الخلع أو الطلاق المرتبطة بقضايا التعدد، ما يكشف عن حساسية الموضوع اجتماعيًا.
الموازنة بين الشرع والواقع
من الواضح أن تعدد الزوجات ليس حكمًا مطلقًا يُمارس بلا ضابط، بل هو رخصة شرعية مشروطة، قد تناسب بعض الظروف وتفشل في أخرى، فإذا كان التشريع قد وُضع لتحقيق مصالح مجتمعية كبرى، فإن تطبيقه اليوم يواجه تحديات واقعية تستدعي وعيًا أكبر والتزامًا أوثق بضوابط العدل.
التعدد بين الرحمة وسوء الاستخدام
تعدد الزوجات في الإسلام تشريع قائم على الرحمة وتحقيق المصلحة، لكنه في التطبيق العملي قد يتحول إلى أداة ظلم إذا غاب عنه العدل الشرع أباح، لكنه لم يُلزم، وترك الأمر للقدرة والمسؤولية أما الواقع الاجتماعي، فيكشف أن التعدد في زمننا المعاصر يحتاج إلى وعي ديني عميق، وإلى قوانين أكثر صرامة لحماية المرأة والأبناء من تبعات سوء استخدام هذه الرخصة الشرعية.
وبين نص قرآني يفتح باب الإباحة، وواقع اجتماعي يضع عراقيل كبرى أمام التطبيق، يظل التعدد ملفًا مفتوحًا للنقاش، يعكس صراعًا مستمرًا بين حكمة التشريع ومشكلات الواقع.