رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

التصوف بين الإحسان والفلكلور الشعبي.. رؤية شرعية تكشف جوهر الطريق الصوفي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

 

التصوف في حقيقته ليس مجرد طقوس أو مظاهر احتفالية تُمارس في الموالد أو الحضرات بل هو منهج أخلاقي وسلوكي يسعى إلى تهذيب النفس وتزكيتها؛ ليبلغ السالك مقام "الإحسان" الذي وصفه النبي ﷺ في حديثه المشهور مع جبريل: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم).

وفي هذا السياق، يؤكد الشيخ هشام ربيع، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن التصوف الحقيقي يقوم على الالتزام الصارم بالشريعة الإسلامية، مستندًا في ذلك إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، ومعتبرًا أن جوهر التصوف يتمثل في السير إلى الله تعالى بقلب خاشع، وسلوك مستقيم، وأخلاق رفيعة، بعيدًا عن أي مظاهر دخيلة قد تُشوه معناه.

الإطار الشرعي للتصوف: الكتاب والسنة أساس الطريق

أوضح أمين الفتوى أن مقام الإحسان الذي يشكّل لبّ التصوف يقوم على أسس شرعية ثابتة، أبرزها ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى تزكية النفس، كما في قوله تعالى:
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9-10].

وكذلك قول النبي ﷺ: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» (رواه الترمذي) وهذه النصوص تؤكد أن التصوف الأصيل ليس خروجًا عن الشريعة، بل التزامًا كاملًا بها، عبر التعمق في البعد الروحي والسلوكي للإسلام.

ولذلك شدد ربيع على أن الصوفي الحق لا ينفصل عن أحكام الفقه أو عقيدة التوحيد، وإنما يسعى إلى الجمع بين العلم والعمل، بين ظاهر الشريعة وباطنها، مصداقًا لقول الإمام الجنيد البغدادي: «طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة».

لفت أمين الفتوى إلى أن التصوف في مصر له جذور عريقة، وتاريخ طويل من المدارس والطرق، التي ساهمت في نشر الإسلام الوسطي وتعزيز الأخلاق وقد مثّلت المشيخة العامة للطرق الصوفية ونقابة الأشراف مرجعيةً رسميةً للحفاظ على التصوف في إطاره الصحيح، والإشراف على الممارسات المرتبطة به؛ بما يضمن نقاء الطريق الصوفي من الانحرافات أو البدع.

وأكد أن وجود مثل هذه المؤسسات يمنح التصوف بعدًا من التنظيم والشرعية، إذ تقوم بدور الرقيب والمرشد، فلا يُترك المجال للممارسات الفردية غير المنضبطة التي قد تُسيء إلى صورة التصوف.

بين التصوف الأصيل والفلكلور الشعبي

أشار الشيخ هشام ربيع إلى وجود فارق جوهري بين التصوف الحقيقي القائم على تزكية النفس والتزام الشريعة، وبين ما يمكن أن يُطلق عليه "الفلكلور الشعبي الصوفي" وهذا الأخير عبارة عن عادات وتقاليد شعبية ارتبطت تاريخيًا بالموالد والمناسبات، لكنها لا تُعبر بالضرورة عن جوهر التصوف.

قد يختلط في هذه الممارسات بعض مظاهر المبالغة، أو صور التعبير غير المنضبطة شرعًا، مثل الممارسات التي تحمل طابعًا استعراضيًا أو سلوكات تخالف جوهر الدين ويرى أمين الفتوى أن هذه الظواهر ليست جزءًا من التصوف الأصيل، وإنما انعكاس لظروف اجتماعية وثقافية معينة، تسللت إلى مظاهر التدين الشعبي.

الدعوة إلى النقد البناء لا الهدم

وحذر ربيع من الانسياق وراء حملات النقد الجارح التي تستهدف هذه الممارسات الشعبية، معتبرًا أن كثيرًا من أصحابها بسطاء، اندفعوا إليها بدافع حبهم الفطري لله ورسوله وأوليائه الصالحين إلا أنهم، لضعف العلم أو غلبة العاطفة، لم يحسنوا التعبير عن هذا الحب.

وأكد أن السبيل الصحيح للتعامل مع هذه الفئة هو التوجيه بالحكمة والموعظة الحسنة، لا التشهير أو التنفير مستشهدًا بقول الله تعالى:
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125].

شدد أمين الفتوى على أن الإصلاح الحقيقي لا يقوم على فضح الأخطاء أو تضخيم السلبيات، بل على بناء الصحوات الروحية، وإحياء معاني القرب من الله في قلوب الناس فالقوة ليست في هدم العادات، وإنما في تقديم البديل النقي الذي يجذب القلوب، مصداقًا لقوله ﷺ: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (متفق عليه).

ورأى أن من واجب العلماء والدعاة أن يكونوا مفاتيح للخير، ينشرون الرحمة لا القسوة، ويبنون جسور المحبة لا جدران العداء. فالتصوف في جوهره دعوة إلى السمو الروحي، وهو ما يحتاج إليه المسلمون اليوم أكثر من أي وقت مضى، في زمن طغت فيه الماديات وضعفت فيه الروابط الروحية.

يبقى التصوف في نظر الشرع وسيلة عظيمة لتزكية النفس والارتقاء في مدارج الإيمان والإحسان، حين يلتزم أصحابه بكتاب الله وسنة رسوله، ويبتعدون عن المظاهر الدخيلة التي قد تشوش على نقاء الطريق. ومع وجود مؤسسات رسمية تضبط مساره، ورجال علم يوجهون بالحكمة، يمكن للتصوف أن يظل مدرسة تربوية وروحية أصيلة في الإسلام، تحفظ للأمة توازنها بين الظاهر والباطن، بين الفقه والروح، بين العقل والقلب.

 

 

تم نسخ الرابط