رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

رحلة فى مدارس الفقه الإسلامي.. تنوع الآراء ووحدة الشريعة

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

حين يُذكر "الفقه الإسلامي"، يقف العقل أمام منظومة واسعة من العلوم، امتدت قرونًا من الاجتهاد والدراسة والتدوين، شكلت حياة المسلمين ووجهت سلوكهم اليومي في كل تفاصيله. ورغم وحدة الدين، فإن اختلاف الفهم والاجتهاد بين العلماء أفرز مذاهب فقهية متعددة، كان أبرزها المذاهب الأربعة: الحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي هذه المذاهب لم تكن مجرد مدارس دينية، بل كانت منارات فكرية عكست تنوع البيئات، وتفاوت الفهم، وتعاملت مع المستجدات بروح زمانها.

منذ عهد الصحابة، لم يكن الخلاف الفقهي أمرًا غريبًا، بل وُجد في الصدر الأول للإسلام، إذ اختلف الصحابة في فهم النصوص وتطبيقها، وحرص كل منهم على اتباع ما ظهر له من الحق ومع اتساع الدولة الإسلامية وتنوع الثقافات والعادات، بات من الطبيعي أن يختلف العلماء في مسائل الفقه، سواء لاختلاف الدلالات اللغوية، أو لتباين فهم النصوص، أو لاختلاف الأسانيد ومراتب الرواة.

هذا الاختلاف لم يكن ناشئًا عن نزاع أو صراع، بل كان نابعًا من عمق في النظر، وحرص على إرضاء الله، وسعي إلى تطبيق الشريعة بحسب مقتضيات الزمان والمكان كان الفقيه يسافر شهورًا ليتثبت من حديث، ويعرض رأيه على كبار العلماء، ويغيره إن ظهر له الصواب.


المذهب الحنفي

ينسب إلى الإمام أبي حنيفة النعمان، ويُعد أوسع المذاهب انتشارًا من حيث الأتباع نشأ في الكوفة، وهي بيئة غنية بالرأي وقليلة في الرواية مقارنة بالمدينة، مما أتاح للعقل مساحة أوسع للاجتهاد.

تميّز المذهب الحنفي بالتوسع في القياس، واعتماد الاستحسان، والاعتداد بالمصلحة المرسلة، وهو ما جعله مناسبًا للبيئات الحضارية ذات التنظيم الإداري المعقّد، كما في الدولة العباسية والعثمانية لاحقًا كان يُنظر إلى أبي حنيفة كمجتهد كبير، ورجل عقلاني، له قدرة بارزة على استنباط الأحكام من النصوص، مع مراعاة روح التشريع.

المذهب المالكي

أسسه الإمام مالك بن أنس، صاحب كتاب "الموطأ"، وأحد أبرز علماء المدينة المنورة قام مذهبه على فكرة "عمل أهل المدينة"، أي اعتبار ما جرى عليه العمل في المدينة من السنن، حجة شرعية مرجحة.

هذا المذهب يتميز بثباته وانضباطه، ويُعرف بترجيح المصلحة العامة والحفاظ على المقاصد الشرعية انتشر في المغرب العربي والأندلس وأفريقيا، وكان له حضور قوي في صياغة الحياة العامة للمجتمعات الإسلامية في تلك المناطق.

المذهب الشافعي

جاء الإمام محمد بن إدريس الشافعي ليؤسس مدرسة متوازنة بين أهل الحديث وأهل الرأي، فصاغ قواعد الأصول بدقة، وكتب رسالته الشهيرة في أصول الفقه، فكان أول من وضع منهجية علمية متكاملة لفهم النصوص واستنباط الأحكام.

اهتم الشافعي بالدلالة اللغوية للنصوص، وكان يرى أن القرآن والسنة أصلان لا يمكن تجاوزهما. كما جعل القياس أداة رئيسية في الاجتهاد، ولكنه ضبطه بقواعد صارمة انتشر مذهبه في مصر والشام وأجزاء من آسيا، وظل حتى اليوم من أكثر المذاهب تنظيمًا على مستوى المنهج الفقهي.

المذهب الحنبلي

ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل، وكان شديد التمسك بالنصوص، قليل الميل إلى الرأي، محجمًا عن القياس إلا للضرورة عُرف عنه حرصه على الرواية، وحرصه الشديد على العقيدة الصحيحة.

أخذ المذهب الحنبلي طابعًا محافظًا، خاصة في باب العقيدة، واشتهر بأنصاره في الحجاز والجزيرة العربية وكان له دور بارز في تشكيل تيارات فكرية لاحقة مثل المدرسة السلفية رغم قلة انتشاره مقارنة بالمذاهب الأخرى، إلا أن أثره ظل واضحًا في المجال العقدي والتعبدي

لماذا اختلفوا؟ دوافع علمية لا سياسية

كثيرون يسألون: لماذا لم يتفق العلماء على رأي واحد؟ والجواب أن اختلافهم لم يكن لهوى، بل لحكمة فالمذاهب تنوعت باختلاف البيئات والسياقات، ولم تكن متناحرة أو متصادمة، بل متكاملة.

تعدد المذاهب أتاح للمجتمعات الإسلامية أن تجد حلولًا شرعية مرنة تناسب ظروفها، وهو ما جعل الشريعة قابلة للتطبيق في شتى الأمصار وقد قال الإمام الشافعي ذات مرة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، ليؤكد أدب الاختلاف واحترام الاجتهاد.

هل يمكن الجمع بين المذاهب؟

في زمننا الحاضر، ومع تطور الحياة وظهور المستجدات، ظهرت دعوات للجمع بين المذاهب، والأخذ بأيسر الأقوال أو أقربها إلى الواقع وبرز مفهوم "الفقه المقارن" الذي يدرس المذاهب الأربعة ويقارن بينها للوصول إلى الرأي الأرجح في كل مسألة.

كما أصبحت المؤسسات الدينية الكبرى كالأزهر ودار الإفتاء تعتمد منهجية لا تتقيد بمذهب واحد، بل تنفتح على اجتهادات متعددة، وتُصدر الفتوى وفق ما يحقق مصلحة الناس ويراعي المقاصد الشرعية.
الفقه الإسلامي، رغم اختلاف مدارسه، كان دومًا انعكاسًا لحيوية الأمة الإسلامية وقدرتها على التجدد المذاهب الأربعة لم تكن جدران فصل، بل جسور فهم، تفتح آفاقًا للاجتهاد وترسخ قيم التسامح وقبول الآخر داخل الإطار الإسلامي.

 

تم نسخ الرابط