العلاج بالقرآن بين العلم والدجل.. من يفصل في النزاع؟

في أزقة القرى وأحياء المدن، لا يكاد يخلو شارع من لافتة خطها أحد الرقاة بعبارة: "علاج الأمراض المستعصية بالقرآن الكريم".
ولم يعد الأمر يقتصر على تلاوة آيات من الذكر الحكيم طلبًا للشفاء، بل صار "العلاج الروحي" في مصر مهنة قائمة بذاتها، يمارسها آلاف الأفراد، بعضهم على علم، وكثير منهم على جهل وتواطؤ مجتمعي؛ فهل الرقية الشرعية طريق مشروع إلى الشفاء، أم أن ساحتها أصبحت مسرحًا للدجل والخرافة والاستغلال؟، وكيف يتم حسم النزاع بين العلم والدين في هذا الميدان المعقد؟
الرقية الشرعية بين التأسيس الشرعي والانحراف التطبيقي
الرُقية الشرعية ليست بدعة مستحدثة، بل هي ممارسة إسلامية أصلها ثابت في السنة النبوية، حيث كان النبي ﷺ يرقي نفسه وأهله بآيات من القرآن الكريم والمعوذات وقد أجازها جمهور العلماء بشروط، أبرزها:
أن تكون بكلام الله تعالى أو بالأذكار النبوية الصحيحة.
أن تكون مفهومة المعنى، بعيدة عن الطلاسم أو الرموز الغامضة.
ألا يُعتقد أن لها تأثيرًا ذاتيًّا مستقلاً عن إرادة الله.
لكن هذه الشروط التي تضمن نقاء الرقية أصبحت، في كثير من الأحيان، ضائعة بين ركام "الرقاة التجاريين" الذين يعمدون إلى قراءة الطلاسم، ورش المياه "المقروء عليها" على أجساد المرضى، وربما استخدام أدوات دخيلة مثل الحبال، البخور، البيض، وحتى الضرب والكيّ أحيانًا تحت دعاوى "إخراج الجني".
تشير عدة تقارير إلى أن سوق العلاج بالقرآن في مصر بات يدر مليارات الجنيهات سنويًا، سواء عبر الجلسات المباشرة، أو المنتجات المرافقة لها مثل "ماء الرقية"، "ملح الشفاء"، "بخور الحسد"، و"أحجبة الطمأنينة"، وتصل تكلفة الجلسة الواحدة في بعض المراكز إلى 500 جنيه، فيما قد تمتد "خطة العلاج" إلى شهور، تحت وهم "الجني العاشق" أو "السحر المتجدد".
في بعض الحالات، يُطلب من النساء الحضور وحدهن، في غرف مغلقة، حيث يمارس الراقي طقوسًا مشبوهة بدعوى إخراج الجني، بينما تنعدم الرقابة الشرعية والقانونية، وقد سجّلت حوادث عدة استُغلّت فيها نساء نفسيًا وجنسيًا تحت ستار الرقية.
متى يكون الجن هو الجاني؟
الواقع يقول إن كثيرًا من الحالات التي تُشخَّص بأنها "مس" أو "سحر" أو "عين"، هي في الحقيقة أمراض نفسية أو عصبية معروفة طبيًا، مثل: اضطراب الهوية التفارقي، أو الصرع (خصوصًا الفص الصدغي)، الاكتئاب الحاد مع الهلاوس، الوسواس القهري، واضطرابات القلق الحاد.
لكن بسبب ضعف الوعي الطبي، يلجأ المرضى وأحيانًا ذويهم إلى الرقاة، هروبًا من وصمة الطب النفسي، وهنا يبدأ الانزلاق، حيث يتم إيقاف الأدوية، تُفسر النوبات بأنها "جني يتكلم"، وتبدأ طقوس تعذيب الجسد بزعم إخراج الشيطان.
الخطير في الأمر، أن بعض الرقاة يوصون المرضى بوقف العلاج الطبي، بل إنهم يعلنون صراحة قدرتهم على شفاء السرطان، والعقم، والفشل الكلوى فقط عبر سورة البقرة والماء المقروء عليه.
ماذا يقول الأطباء؟.. شهادة من غرفة المعاناة
في لقاء مع طبيب نفسي، أكد أن 6 من كل 10 مرضى يعانون من أعراض اضطرابات نفسية تُحال إليه بعد فشل جلسات الرقية.
يقول أحد الأطباء: "يأتيني المريض وقد تلقى إيحاءً بأن به جنيًا، ويدخل في نوبات صراخ فعلي حين نبدأ العلاج السلوكي المعرفي وندعمه دوائيًا، تتحسن حالتة، لكن إن عاد إلى الراقي، تنتكس الأعراض مجددًا".
ويضيف: "الخلط بين المرض النفسي والروحي سبّب كوارث؛ وهناك من انتحر لأنه اعتقد أن جنيًا يسيطر عليه ولا فكاك منه".
فقهاء الشريعة: هذه ليست رقية نبوية
علماء الشريعة بدورهم يميّزون بين الرقية الشرعية الصحيحة، والممارسات الدخيلة التي تحوّلت إلى ما يشبه "السحر الأبيض".
فقد أكد أحد أساتذة الشريعة أن الرقية عبادة، وليست صنعة، ومن أراد أن يُرقي فليتق الله، ولا يأخذ أجورًا فاحشة، ولا يدّعي ما ليس له به على كل من يستخدم الطلاسم أو يُشخّص الأمراض بلا علم، فهو دجال.
وأضاف: "الرقاة الحقيقيون لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، والباقي يركبون الموجة".
فلا يوجد قانون ينظم مراكز العلاج بالقرآن، ولا جهة تمنح تراخيص لممارسة الرقية، ولا معايير تفرّق بين الراقي الشرعي والدجال، ما جعل المرضى فريسة سهلة للاعتداءات النفسية، المادية، وأحيانًا الجسدية.
بين الإنكار المطلق للرقية، والتقديس المفرط لها، تبرز الحاجة إلى مقاربة متوازنة، تنطلق من المعايير التالية:
ضرورة التشخيص الطبي أولًا قبل اللجوء إلى الرقية، فيجب على المريض زيارة الطبيب المختص.
إخضاع الرقاة لرقابة شرعية وعلمية، فينبغي أن يكون كل راقٍ حاصلًا على إجازة شرعية، ودورة معرفية بالطب النفسي.
منع العلاج العضوي بالرقية، فيجب عدم استخدام الرقية لعلاج السرطان أو الكلى أو أمراض القلب، بل في النواحي النفسية والروحية فقط.
تفعيل دور الإعلام في التوعية لبيان الفرق بين الرقية والدجل، وتشجيع المرضى على الطب الحديث.
سن تشريعات تنظم المهنة بإشراف مشترك بين وزارة الصحة ومجمع البحوث الإسلامية.
من يفصل النزاع؟
يبقى النزاع بين العلم والدجل مفتوحًا ما لم تتدخل الدولة والمؤسسات الدينية والعلمية بشكل حاسم؛ فالقرآن الكريم شفاء نعم، لكن لا يجوز أن يُستخدم سلاحًا في يد الجهل، ولا أداة للكسب في يد النصّابين؛ وحده الميزان الذي يجمع بين روح الشريعة ودقة العلم، هو من يملك أن يفصل في هذا النزاع، فالعلاج بالقرآن رحمة، لكن بغير علم قد يصير لعنة.