محمد زكي يكتب: زمن العلاقات المؤقتة..!
هناك لحظات إنسانية قاسية تتكرر كثيرًا في زماننا، لحظة تدرك فيها أن شخصًا كان جزءًا حيًّا من يومك، صار فجأة ظلًا بعيدًا
.. قريبًا بصورته على الشاشة، لكنه غائبا تمامًا عن التفاصيل التي كانت تجمعكما.
وجوه كانت تمنح الأيام دفئًا، تحولت إلى إشعارات صامتة على هواتف المحمول ،أحاديث كانت تمتد بلا نهاية، أصبحت كلمات قصيرة، خفيفة، بلا أثر.
نعيش اليوم في واقع يشبه المسودّات غير المكتملة؛ علاقات تبدأ بسرعة البرق… وتنتهي بهدوء دون أى إحساس، كأن كل شخص عابر مسموح له أن يطل علينا ثم يختفي دون تفسير، وكأن الاستمرارية أصبحت رفاهية لم يعد كثيرون يؤمنون بها.
ومع هذا التحول الجارف، يبرز سؤال جوهري يستحق التأمل: هل تسربت المؤقتية إلى حياتنا بسبب التكنولوجيا الحديثة والانفتاح المفرط على العالم؟.. أم أن في داخلنا نحن شيئًا تغيًر… فصار البقاء عبئًا، والرحيل أسهل الخيارات؟.
لا يمكن تجاهل الدور الكبير للتكنولوجيا في إعادة تشكيل مفهوم العلاقة فعندما انتقلت الروابط الإنسانية من اللقاء المباشر إلى شاشة مضيئة، حدثت فجوة عميقة في طبيعة القرب.
التكنولوجيا قدمت لنا «وصولًا بلا التزام»، صارت العلاقات تدار بالضغط على زر إرسال وحذف، وتقييمها يقاس بعدد الرسائل لا بعمق التجارب، وبات كل شيء قابلًا للاستبدال بضغطة واحدة.
وفرة الخيارات أضعفت قيمة الاختيار، فلم يعد الوقت استثمارًا، ولا بذل الجهد ضرورة، ولا الصبر فضيلة.
العلاقة التي كانت تُبنى بتراكم اللحظات، أصبحت تُحسم بسرعة الإحساس اللحظي.
العالم اليوم مفتوح على مصراعيه، نرى الآخرين بتجاربهم وأفكارهم وطباعهم على مدار الساعة ، ويولد مع هذا الانفتاح شعورا خفيا بأن هناك دائمًا أفضل أو أجمل أو أكثر إثارة في مكان آخر.
هذا الإحساس يضع العلاقات أمام امتحان مرهق: مقارنة دائمة لا ترحم، وتوقعات غير واقعية، وشعور مستمر بأن «ما لديّ الآن ليس كافيًا» .. ومثل أي شيء وفير، فإن القيمة الحقيقية تضيع حين تتعدد البدائل بلا حدود.
لكن… هل المشكلة في التكنولوجيا أم في الإنسان؟
الحقيقة أن التكنولوجيا والانفتاح مجرد أدوات، أما جوهر الأزمة فهو في الإنسان نفسه.. لقد أصبحنا أكثر استعجالًا، أقل صبرًا، أكثر خوفًا من المواجهة، وأقرب إلى الهروب عند أول خلاف.
صرنا نبحث عن علاقة «مريحة» بدل علاقة «ناضجة» وعن تواصل بلا التزامات، وتجارب لطيفة لا تُلزِم القلب بشيء.
أصبحنا نفضل الصورة على الحقيقة، والخفة على العمق، والتجربة السريعة على الارتباط الممتد.
في زمن العلاقات المؤقتة نخسر الكثير… أكثر مما نتصور.. نخسر دفء الاستمرارية ، نخسر شعور الأمان الذي يولّده الاعتياد ، نخسر الشخص الذي يفهم صمتك قبل كلامك ، نخسر جمال الرحلة الطويلة بكل مطبّاتها وتفاصيلها.
نحيا وسط ضجيج من الوجوه، لكننا نفتقد وجهًا واحدًا نحتمي به ، نحاور الكثيرين، لكن قليلًا من يفهم عمق جملة واحدة نقولها.
التكنولوجيا لم تخلق العلاقات المؤقتة، لكنها جعلتها سهلة… ومغرية. والانفتاح لم يُفسد القلوب، لكنه كشف هشاشتها .
أما المشكلة الحقيقية فهي أننا لم نعد نملك قدرة البقاء، ولا شجاعة الاعتراف بأن العلاقات التي تستحق الحياة هي تلك التي تحتاج وقتًا… وصبرًا… وعيونًا ترى ما وراء اللحظة.
ربما السؤال الأهم اليوم هو..
من منا يملك الشجاعة ليكون استثناءً… ويمنح العلاقات عمرًا أطول من عمر الشاشة؟