رئيس مجلس الإدارة
رضا سالم
رئيس التحرير
نصر نعيم

أيقونة التلاوة التي لا تغيب.. ذكرى رحيل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد

الشيخ عبد الباسط
الشيخ عبد الباسط عبد الصمد

في كل عام، ومع حلول نهاية شهر نوفمبر، يعود اسم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد إلى الواجهة بقوة، ليس فقط باعتباره قارئًا متفردًا، بل بوصفه ظاهرة فنية وروحية شكّلت وجدان الشعوب الإسلامية وامتدت آثارها لأجيال متعاقبة ومع إحياء وزارة الأوقاف لذكرى رحيله، يتجدد النقاش حول مسيرة هذا الرجل الذي استطاع بصوته وحده أن يعبُر الحدود، وأن يقدّم نموذجًا فريدًا لمدرسة تلاوة مصرية أصبحت مرجعًا عالميًا.

في قرية المراعزة بمحافظة قنا وُلد الشيخ عبد الباسط عام 1927، وسط مجتمع زراعي تقليدي عُرف بحفظ القرآن وإحياء الليالي الدينية كانت الأسرة تُولي اهتمامًا بالغًا بعلوم القرآن، ما جعل حفظه في سن العاشرة حدثًا طبيعيًا لكنه مؤسس لمسار غير تقليدي.

وتميز الطفل الصغير بقدرة استثنائية على ضبط أحكام التلاوة، ومع الوقت بدأت موهبته الصوتية تفرض نفسها داخل حلقات التحفيظ والمناسبات القروية وقد أسهمت البيئة الريفية الهادئة في صقل حسه السمعي، حيث كانت التلاوة تنطلق في فضاء مفتوح يعزز قوة الصوت وامتداده، قبل أن ينطلق لاحقًا إلى المسارح الكبرى للتلاوة.

البداية الحقيقية: تلاوة فاطر وانطلاق المدرسة الجديدة

جاءت نقطة التحول الكبرى عندما أدى الشيخ عبد الباسط تلاوة من سورة فاطر في إحدى المناسبات، وهي التلاوة التي نقلته من القرى إلى المدن أثارت التلاوة اهتمامًا واسعًا بسبب قدرة الشيخ على الانتقال بين المقامات بدقة محكمة، مع حفاظه على الخشوع الذي ميّز أداءه طوال حياته.

بعد تلك اللحظة، أصبح اسمه مطروحًا بقوة في الأوساط القرآنية، ما دفع الإذاعة المصرية إلى اعتماده قارئًا رسميًا عام 1951 كان هذا الحدث بداية دخول صوته إلى كل بيت، إذ أصبحت تلاواته جزءًا من البرامج الأساسية في الإذاعة، خاصة في فترات الفجر والجمعة.

قراءته في المساجد الكبرى.. وتأثيره على الأجيال

لم يقتصر حضور الشيخ عبد الباسط على الإذاعة، بل امتد إلى المساجد التاريخية بدأ من مسجد الإمام الشافعي، ثم خلف القارئ الكبير الشيخ محمود علي البنا في مسجد الإمام الحسين وفي هذه المساجد، واصل تطوير مدرسته التي اعتمدت على الوضوح الصوتي والقوة مع عذوبة لا تنفصل عن المعنى، بالإضافة إلى طول النفس الذي مكّنه من أداء آيات كثيرة دون انقطاع.

كان تأثيره بالغًا على الأجيال اللاحقة من القرّاء، إذ اعتبره عدد كبير من شباب القرّاء مثالًا أعلى. وقد تبنت مدارس التلاوة الحديثة العديد من خصائص أسلوبه، سواء في الأداء المقامي أو التحكم في مخارج الحروف.

صوت يطوف العالم: قراءة في مكة والمدينة والقدس

من بين أهم المحطات في مسيرة الشيخ عبد الباسط كانت قراءاته خارج مصر، والتي فتحت له أبواب الشهرة العالمية فقد صدح صوته في المسجد الحرام والمسجد النبوي، وهي لحظات تركت أثرًا كبيرًا لدى ملايين المستمعين كما قرأ في المسجد الأقصى وفي المسجد الإبراهيمي بالخليل، إلى جانب المسجد الأموي بدمشق، إضافة إلى مشاركاته في دول آسيا وإفريقيا وأوروبا.

لم تكن هذه الرحلات مجرد دعوات لقراءة القرآن، بل كانت تجارب شكلت وعيًا عالميًا بصوت مصري أصبح رمزًا لمدرسة التلاوة في مصر ومن هنا اكتسب لقب “صوت مكة”، وهو لقب التصق به لعقود طويلة وارتبط بطبيعة حضوره في الأماكن المقدسة.

أرشيف ثري: مصاحف مرتلة وتسجيلات لا تزال تُدرّس

ترك الشيخ عبد الباسط ثروة صوتية ضخمة للإذاعة المصرية، شملت تسجيلات مجوّدة وأخرى مرتلة، بالإضافة إلى المصحف المرتل الكامل، ومصاحف لعدد من الدول العربية والإسلامية وتمتاز هذه التسجيلات بدقة هندسية غير مسبوقة في زمانها، وبثبات صوته الذي لم يتغير كثيرًا رغم مرور السنين.

تُستخدم تسجيلاته اليوم في المدارس والمعاهد ودورات التحفيظ، كما تعد مادة تعليمية أساسية لدارسي علم المقامات، نظرًا إلى دقة الأداء ووضوح النطق.

تكريم وتأسيس نقابة القرّاء: دور يتجاوز التلاوة

في منتصف الثمانينيات، ومع تزايد الاهتمام بأهل القرآن، أسهم الشيخ عبد الباسط في إنشاء “نقابة محفظي القرآن الكريم”. وقد انتُخب أول نقيب لقرّاء مصر عام 1984، في خطوة هدفت إلى تنظيم العمل القرآني وحماية حقوق الحفظة والقرّاء.

حصل الشيخ على عدد من التكريمات داخل مصر وخارجها، تقديرًا لدوره في نشر التلاوة المصرية وتقديم نموذج فريد يوازن بين الأداء الفني والالتزام الشرعي.

لحظة الرحيل.. جنازة تشبه حدثًا وطنيًا

في 30 نوفمبر 1988، توفي الشيخ عبد الباسط عن عمر ناهز 61 عامًا. جاءت جنازته حدثًا استثنائيًا، إذ شهدت حضورًا رسميًا وشعبيًا واسعًا، وشارك عدد من سفراء الدول الإسلامية في وداعه، كما أُقيمت صلاة الغائب عليه في العديد من مساجد العالم الإسلامي.

كان رحيله نهاية مرحلة مهمة في تاريخ التلاوة، لكنه لم يكن نهاية تأثيره؛ فقد بقي صوته حاضرًا بقوة، يُدرّس ويُتلى ويُلهم الملايين.


 

تم نسخ الرابط