الأزهر الشريف يحسم الجدل: العربية لغة الوحي وهُوية الأمة
في أمسية علمية شهدها الجامع الأزهر أمس الثلاثاء ضمن «ملتقى الأزهر للقضايا المعاصرة»، اجتمع العلماء والباحثون وروّاد الجامع لمناقشة أحد أخطر ملفات الهوية: واقع اللغة العربية وضرورة الدفاع عنها أمام موجات التغريب والتهوين.
الندوة التي جاءت بعنوان «ردّ الغارة على اللغة العربية» انعقدت برعاية فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وبتوجيهات فضيلة الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، وأدارها الإعلامي إسماعيل دويدار، رئيس إذاعة القرآن الكريم.
شارك في الندوة الدكتور إبراهيم الهدهد، رئيس جامعة الأزهر الأسبق، والدكتور ربيع الغفير، أستاذ اللغويات المساعد بجامعة الأزهر، في حديث مطوّل تناول خصوصية العربية، وعلاقتها بالوحي، وأهمية إتقانها لفهم الدين، ومخاطر الدعوات القديمة والمتجددة إلى استبدالها بالعامية أو اللغات الأجنبية.
العربية.. لغة الوحي ووعاء الرسالة الخاتمة
اختيار إلهي وتكريم رباني
أوضح الدكتور إبراهيم الهدهد أن الحديث عن اللغة العربية لا يبدأ من خصائصها ولا من معاجمها، بل من الاصطفاء الإلهي الذي اختارها وعاءَ القرآن الكريم ولسانَ رسالة النبي ﷺ.
وأشار إلى الحديث النبوي «أوتيت جوامع الكلم»، مؤكدًا أن هذا الاصطفاء دليل على أن العربية تمتلك قدرة فريدة على جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، وهي ميزة لا تتوفر في أي لغة أخرى بالقدر نفسه.
لغة تجمع الإيجاز والإطناب
قال الهدهد إن العرب تميّزوا بإيجاز يُحفظ عنهم وإطناب يُفهم عنهم، وهو ما يعكس عبقرية اللغة وقدرتها على الإحكام عند الحاجة، والبسط عند الإيضاح، وهو ما يجعلها أصلح اللغات للتبليغ والهداية.
مفردات تتفوق على اللغات العالمية بستة أضعاف
وساق الهدهد مقارنة لافتة بين معاجم العربية ومعاجم اللغات الأوروبية، مؤكدًا أن «لسان العرب» رغم كونه معجمًا متوسط الحجم يقع في 8 مجلدات ضخمة، بينما لا يتجاوز أوسع معجم إنجليزي (أكسفورد) ألف صفحة، وكذلك الحال في الفرنسية.
ومن هذا المنطلق، خلص إلى أن العربية تمتلك ثراءً لغويًا يفوق اللغات العالمية بستة أضعاف على الأقل، ما يجعلها قادرة على استيعاب العلوم والمعارف ورواية الحضارات عبر العصور.
العربية.. هوية الأمة وعماد الدين
العربية ليست أداة تواصل... بل أساس الدين نفسه
من جانبه، أكد الدكتور ربيع الغفير أن العربية ليست مجرد أداة للتخاطب، بل هي هوية الأمة وعماد شريعتها؛ فهي لغة القرآن والسنة، ولولاها ما أمكن الوصول إلى نصوص الدين ولا فهمها على وجهها الصحيح.
إجماع المفسرين واللغويين على ضرورة اللغة لفهم الوحي
واستشهد الغفير بما قاله الإمام الواحدي في مقدمة «البسيط»:
«من أراد أن يفسر القرآن فليتعلم النحو والأدب».
وهو ما قرره أيضًا أبو حيان في «البحر المحيط» والسيوطي في «الإتقان»، مؤكدين أن علوم العربية تقف في مقدمة العلوم التي لا غنى عنها لفهم القرآن والسنة.
شدّد الغفير على أن من لا يتقن العربية لا يستطيع إدراك المعنى الحقيقي لآيات القرآن ولا لمتون السنة، ولا يفهم دلالات اللغة الدقيقة مثل التقديم والتأخير أو بلاغة الالتفات، وهي مفاتيح جوهرية لفهم الخطاب الشرعي.
وضرب مثالًا بآية ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، مؤكدًا أن من لا يعرف قواعد الإعراب يغيب عنه معنى الآية، وهو ما ينسحب على آلاف النصوص في التراث والتفسير والفقه.
اللغة.. الطريق إلى التدبر والإحسان
وأشار إلى أن إجادة العربية ليست مهارة لغوية فحسب، بل طريق إلى فتح أبواب التدبر في كتاب الله، واستشعار جمالياته، وفهم مقاصده كما أرادها الله تعالى.
كتاب «تاريخ الدعوة إلى العامية» وثيقة تكشف أخطر المخططات
توقف الغفير عند كتاب الدكتورة نفوسة زكريا «تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر»، ناقلًا شهادة الشيخ محمود شاكر الذي قال:
«لو استطعت أن أجعل نسخة منه في كل بيت لفعلت».
وأوضح أن محاولات ضرب اللغة العربية ليست جديدة، بل بدأت منذ بدايات القرن الماضي حين أدرك دعاة التغريب أن هدم العربية هو أقصر الطرق لهدم الدين والهوية.
الشاطبي ينبه منذ قرون: لا اجتهاد بلا لغة
وأشار إلى أن الإمام الشاطبي في «الموافقات» جعل فهم العربية شرطًا للاجتهاد، مما يؤكد أن اللغة ليست مظهرًا ثقافيًا بل ركن من أركان الفقه وفهم الشريعة.
دعوة الأزهر إلى حماية العربية وتعزيز حضورها
دويدار: العربية وعاء الحضارة ومخزون الأمة
في ختام الندوة، أكد الإعلامي إسماعيل دويدار أن العربية هي الوعاء الحافظ لحضارة الأمة ولسان الوحي والكتاب الخالد.
وشدد على أنها أقدم اللغات الحية، وأن الدفاع عنها دفاع عن الإسلام وهويته الثقافية والفكرية.
ضرورة دعم المبادرات التعليمية والإعلامية
ودعا دويدار إلى تعزيز حضور العربية في المدارس والجامعات والإعلام والأسرة، مشيرًا إلى أهمية الملتقيات العلمية التي تُعيد الاعتبار للسان القرآن وتُواجه موجات التهميش اللغوي.