السر الإلهي في تبدّل الأقدار.. آية تكشف قوة الدعاء
في قلب كل إنسانٍ لحظةُ انكسارٍ يتجه فيها إلى السماء رافعًا يديه متوسلًا: يا ربّ غيّر قدري، يا ربّ فرّج همي وبين دموع الرجاء وصمت الليل، يبرز السؤال الأزلي الذي حيّر العقول وأثار النقاش بين العلماء والمتعبدين على مر العصور: هل يمكن للدعاء أن يغيّر القدر؟
سؤالٌ تبدو إجابته مزيجًا من الفلسفة الإيمانية والفقه العميق، لكنه في جوهره يعكس صراع الإنسان بين التسليم المطلق لإرادة الله، وبين الأمل في أن يكون الدعاء مفتاحًا لتبدّل المصائر.
من هنا جاء الجدل الذي أحياه من جديد علماء الأزهر ووزارة الأوقاف، حين تحدث الدكتور أيمن أبو عمر، وكيل وزارة الأوقاف لشؤون الدعوة عن آية قرآنية واحدة تختصر هذا السر الإلهي العظيم مؤكّدًا أن الدعاء لا يغيّر علم الله لكنه قد يغيّر القدر المعلّق وهو باب من الرحمة الإلهية فتحه الله لعباده ليجدوا فيه أمل النجاة والتبديل.
الآية التي كشفت سرّ القدر المعلّق
استشهد الدكتور أيمن أبو عمر بالآية التي وردت في قصة النبي يونس عليه السلام: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
تلك الآية التي تختصر معجزة الهروب من القدر المظلم إلى النور بفضل التسبيح والدعاء فالنبي يونس الذي التقمه الحوت بقدرٍ من الله لم يكن أمامه سبيل إلا الدعاء والتسبيح في الظلمات، ولولا هذا التسبيح كما توضح الآية لبقي حبيسًا في بطن الحوت إلى يوم القيامة.
وهنا يؤكد وكيل وزارة الأوقاف أن هذه الآية أعظم دليل على أن الدعاء يرد القدر المعلّق أي القدر الذي يمكن تغييره إذا تحقق شرط الطاعة والدعاء والاستغفار.
ويضيف قائلاً: القدر المعلّق هو ما يكون مكتوبًا في اللوح أنه يتحقق بشرط معين، كأن يُكتب لإنسان رزق أو نصر أو شفاء، لكنه لا يناله إلا إذا دعا الله أو اجتنب معصية أو داوم على الطاعة.
ويستشهد بحديث النبي ﷺ: إن العبد ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه
أي أن الذنب قد يكون سببًا في حجب رزقٍ أو نعمةٍ كتبها الله لعبده، والدعاء مع التوبة والطاعة قد يكون طريقًا لإعادة هذا الخير إليه.
الدعاء لا يغيّر علم الله.. لكنه يغيّر الكتاب المسطور
ومن زاوية فقهية أعمق، تناول الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار العلماء هذه القضية موضحًا أن مفهوم تغيير القدر لا يعني أن علم الله يتبدّل فالله سبحانه وتعالى علمه أزليّ لا يتغيّر ولا يُراجع ولكن التغيير قد يقع في الكتاب المسطور الذي تطّلع عليه الملائكة.
يقول الدكتور علي جمعة في تفسيره: هناك قدر محتوم لا يتغير، وقدر مبرم، وهناك قدر في علم الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يُخالف أو يُراجع لكن الله سبحانه وتعالى يعلم أن العبد سيدعو، ويعلم أن استجابته ستغيّر ما في الكتاب المسطور الذي بأيدي الملائكة
ويضرب مثالًا توضيحيًا: قد يكون مكتوبًا في الصحف أن فلانًا سيرسب في الامتحان، لكنه يدعو الله بصدقٍ وإخلاص، فيوفّقه الله للإجابة فينجح، وهنا يكون الدعاء قد غيّر ما في الكتاب المسطور، لكنه لم يغيّر علم الله؛ لأن الله كان يعلم أنه سيدعو وسينجح.
بهذا المعنى، يصبح الدعاء فعلاً من أفعال الإيمان، لا يناقض القدر بل يتفاعل معه في منظومة إلهية دقيقة لا يعرف سرّها إلا الله سبحانه.
القضاء المبرم والقضاء المعلّق.. فقه التفرقة الدقيقة
ومن جهةٍ أخرى، أوضح الشيخ عويضة عثمان، مدير إدارة الفتوى الشفوية بدار الإفتاء المصرية، المعنى الدقيق للحديث النبوي: «لا يردّ القضاء إلا الدعاء».
وأكد أن المقصود في الحديث هو القضاء المعلّق وليس القضاء المبرم.
ويشرح قائلاً: القضاء نوعان: المبرم وهو المحتوم الذي لا يتبدّل ولا يُراجع، والمعلّق وهو الذي يمكن أن يتغيّر بأسبابٍ أرادها الله، كالدعاء أو الصدقة أو صلة الرحم.
ويضرب مثلاً لتقريب الفكرة: قد يُكتب في صحف الملائكة أن فلانًا إن دعا الله يُعطى كذا، وإن لم يدعُ لا يُعطى، والملائكة لا تعلم ماذا سيكون من أمره، فإن دعا الله حصل له ذلك الخير، فيكون دعاؤه قد ردّ القدر المعلّق.
ويتابع موضحًا: أما القضاء المبرم، فهو المكتوب في علم الله الأزلي، وهذا لا يردّه دعاء ولا صدقة ولا أي عمل، لأنه من صفات الله التي لا تتغير، لكن رحمة الله جعلت باب الدعاء سببًا لتغيير ما في اللوح المأذون به للملائكة.
من منظور الإيمان: الدعاء بابٌ للنجاة لا يتناقض مع القدر
يتفق العلماء على أن الدعاء ليس مواجهةً مع القدر، بل طاعةٌ لله وأداة تفعيلٍ لإرادته في الكون. فالله أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، كما قال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
فإذا كان كل شيء مقدرًا، فحتى الدعاء نفسه جزءٌ من القدر، والإنسان حين يدعو الله لا يغيّر مشيئته تعالى، بل يُفعّل دوره في المنظومة الإلهية التي تقوم على الاختيار ضمن القدر.
ولهذا قال العلماء: الدعاء يردّ البلاء قبل نزوله، ويخفّفه بعد وقوعه.
فقد يكون الإنسان مقدّرًا له بلاء، لكن بدعائه وصدق لجوئه إلى الله يُرفع عنه أو يُخفف، وهذا ما عبّر عنه ابن القيم في قوله:
الدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخفّفه إذا نزل.
التسبيح.. سرّ النجاة من أقدار الظلمة
قصة سيدنا يونس عليه السلام ليست مجرد واقعة تاريخية، بل رمزٌ إيمانيّ يُجسّد كيف يبدّل الدعاء مصيرًا مظلمًا إلى نورٍ مطلق.
فحين قال يونس في بطن الحوت: {لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}،
كان بهذا الاعتراف والتسبيح والدعاء يعترف بضعفه أمام القدرة الإلهية، فيردّ الله عنه البلاء بقدرٍ جديد
يقول المفسرون إن هذه الآية تُعدّ من أقوى الأدلة على أن الله جعل من الدعاء بابًا لتبديل المقادير، وأن كل تسبيح أو استغفار صادق قد يكون سببًا في رفع بلاءٍ أو تأخير مصيبةٍ أو فتح باب رزقٍ مغلق.