كيف يحصّن الأزهر الشريف العقول الشابة من تيارات الإلحاد؟
في عصرٍ تتزاحم فيه التيارات الفكرية على منصات التواصل الاجتماعي، باتت معركة الإيمان والشكّ من أكثر المعارك الفكرية ضراوة وتأثيرًا على عقول الشباب لم تعد المواجهة الفكرية كما كانت في الماضي تدور بين منابر العلم والجامعات أو في ساحات المناظرات الفلسفية، بل أصبحت تُدار اليوم في فضاءات الإنترنت، ومقاطع الفيديو القصيرة، وحسابات المؤثرين الذين يقدّمون الإلحاد في قالب ترفيهي جذّاب، يُخاطب العاطفة والعقل معًا.
وفي مواجهة هذا التحدّي، يقف الأزهر الشريف تلك المنارة التي أضاءت العالم الإسلامي لأكثر من ألف عام حارسًا للفكر الوسطي، ومدافعًا عن يقين الأمة من رياح الشكوك الفكرية التي تتخفّى أحيانًا تحت شعارات “الحرية الفكرية” أو “المنطق العلمي”.
لم يعد الإلحاد في عصرنا الحديث تيارًا فلسفيًا يعتمد على المنطق أو النقاش العقلي كما كان في عصور الفلاسفة القدامى، بل تحوّل إلى ظاهرة رقمية تتغذّى على الاضطراب النفسي، والفراغ الروحي، وضعف الثقافة الدينية.
يتسلل الإلحاد اليوم إلى عقول الشباب من خلال أساليب “خفيفة الظل”، وأحيانًا ساخرة، تسعى لتبسيط الشبهات وتشويه المفاهيم الدينية فتارة يُثار التساؤل حول الحكمة من العبادات، وتارة يُشكّك في وجود الله أو عدله، في محاولة لإحداث تصدّع في القيم الإيمانية.
وقد وصف القرآن الكريم هذا الفكر المادي منذ قرون في قوله تعالى:
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: 24].
فهو الفكر ذاته، وإن تغيّرت أدواته ومظاهره، يبقى المنكرون لوجود الله يردّدون صدى كلمات أسلافهم بوسائل أكثر بريقًا وإغراءً.
ويرى علماء الاجتماع الديني أن الإلحاد المعاصر لا ينبع من قناعة فكرية بقدر ما يتغذّى على أزمات نفسية مثل الاغتراب، واليأس، والإحباط، والشعور بالظلم أو فقدان العدالة، فيتحوّل الإنسان من مؤمنٍ يبحث عن المعنى إلى مشكّكٍ يهرب من ذاته قبل أن يهرب من الإيمان.
الأزهر الشريف.. قلعة اليقين وميدان المواجهة الفكرية
منذ أكثر من ألف عام، ظل الأزهر الشريف قلعة الفكر الوسطي في العالم الإسلامي، يواجه التيارات المنحرفة من فلسفات وثقافات دخيلة، بدءًا من الفكر المادي والإغريقي مرورًا بالمذاهب الإلحادية الحديثة.
واليوم، يقود الأزهر معركة جديدة ضد “الإلحاد الإلكتروني” عبر منظومة متكاملة تجمع بين التعليم، والإعلام، والدعوة، والحوار.
تجديد الخطاب الديني بمنهج علمي ووسطي
اعتمد الأزهر في مواجهته لظاهرة الإلحاد على تجديد الخطاب الديني من دون التفريط في الثوابت فجاء التجديد عنده بمعنى التبسيط لا التبديل، والتنوير لا الانحراف.
وقد شدّد فضيلة الإمام الأكبر أ.د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، على أن المعركة الفكرية لا تُكسب بالصدام بل بالحوار الهادئ، قائلاً: “علينا أن نفرّق بين من يُشكّك عن جهلٍ، وبين من يُنكر عن علمٍ؛ فالأول يحتاج إلى رحمة وتعليم، والثاني إلى حوار علمي رصين”.
بهذا النهج الوسطي، جعل الأزهر من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة قاعدة لمواجهة الفكر الإلحادي، استنادًا إلى قوله تعالى:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ [النحل: 125].
مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية
أدرك الأزهر أن معركة اليوم تُدار على شاشات الهواتف لا في ساحات المساجد، فأسّس مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية كمنصة فكرية ترصد على مدار الساعة ما يُنشر من أفكار إلحادية وشبهات عبر شبكات التواصل.
يضم المركز وحدة متخصّصة تُعرف باسم “وحدة الرصد العقدي والفكري”، تُحلّل الخطابات الإلحادية وتفكّك أساليبها النفسية والإقناعية، وتردّ عليها بلغة يفهمها الشباب، بلغة تُوازن بين العلم والعقل والوجدان.
كما يُصدر المركز محتوى مرئيًّا تفاعليًّا مثل سلسلة “رد الشبهات”، التي تتناول أبرز الأسئلة التي يثيرها المشكّكون:
لماذا خلقنا الله؟
لماذا يوجد الشر في العالم؟
هل يتناقض العلم مع الإيمان؟
ويعتمد الردّ على الآيات القرآنية والعقل السليم، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
التعليم الأزهرى.. بناء العقل المقاوم للشك
يُولي الأزهر أهمية بالغة لتربية العقل المسلم منذ الطفولة فمناهج العقيدة تُقدَّم في معاهده وجامعاته بأسلوب يجمع بين البرهان النقلي والعقلي.
تُعقد داخل المعاهد والجامعات ندوات تحمل عناوين مثل: «كيف أواجه الشكوك الفكرية؟» و «العقل والإيمان توازن لا تضاد»، بهدف تنشئة جيلٍ يُدرك أن الإيمان لا يتناقض مع التفكير، وأن السؤال ليس جريمة بل طريق إلى اليقين.
ويستشهد العلماء دائمًا بقول الله تعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
فالآية تُجسّد فلسفة الأزهر في تربية طلابه: أن التأمل في الكون سبيلٌ إلى الإيمان، لا إلى الإلحاد.
الحوار بديلاً عن المواجهة
تحوّل الأزهر من نمط “الوعظ من طرف واحد” إلى منهج الحوار المتبادل فأطلق مبادرة «اسأل الأزهر» على الإنترنت، ليطرح الشباب أسئلتهم وشكوكهم بلا خوف من التوبيخ، وليجدوا إجابات علمية موثوقة من العلماء.
كما نظّم “منتديات الحوار بين العلماء والشباب” داخل الجامعات، حيث تُناقش القضايا الفكرية الحساسة مثل العدالة الإلهية، معنى القدر، الحرية، والهوية الدينية.
بهذه المبادرات، جعل الأزهر من الحوار المفتوح وسيلة للتحصين العقلي والروحي
الإعلام الديني الجديد منابر إلكترونية تحصّن العقول
في ظل تمدّد التيارات الإلحادية عبر الإعلام الرقمي، لم يتأخر الأزهر في خوض هذا الميدان بنفس أدوات العصر.
فأطلق حسابات رسمية على المنصات المختلفة تنشر مقاطع مرئية قصيرة موجهة للشباب، بلغة بسيطة وشكل جذّاب، لتفنيد الشبهات والردّ على دعاة الشك بأسلوب علمي هادئ.
كما يُنتج الأزهر محتوى تثقيفيًا يربط بين الدين والعلم، وبين الإيمان والمنطق، في محاولة لجذب الشباب الذين يستهويهم الخطاب العقلاني المبرهن.
بناء جيل مؤمن مفكّر.. رؤية الأزهر للمستقبل
يؤمن الأزهر بأن المواجهة الفكرية الحقيقية ليست في الردّ اللحظي على الشبهات، بل في بناء عقل مؤمن مفكّر يملك أدوات النقد والتحليل، فلا تنطلي عليه دعايات الشك.
فالعقل المؤمن ليس مغلقًا، بل منفتحًا على التفكير والتدبّر، كما قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].