رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

بين الفقه والعُرف.. زواج القاصرات يفتح جبهة صراع في قرى مصر

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

بين دفاتر المأذون وبيوت الريف، تتكرر قصة زواج القاصرات التي كثيرًا ما تبدأ في صمت وتنتهي في مأساة اجتماعية أو صحية أو نفسية القضية ليست جديدة، لكنها ما زالت تُثير جدلًا واسعًا بين الفقهاء ورجال القانون والمدافعين عن حقوق المرأة والطفولة.

فهل يجيز الشرع هذا الزواج باعتباره عقدًا صحيحًا طالما توافرت أركانه؟ أم أن حماية الطفولة أولى، في ظل ما أظهرته الدراسات الطبية والاجتماعية من مخاطر جسيمة؟ وفي مصر تحديدًا، حيث تتركز هذه الظاهرة في البيئات الريفية والصعيد، يتخذ الجدل طابعًا أكثر حدة بين الموروث الثقافي والواقع القانوني.

الرؤية الشرعية بين النصوص والاجتهاد

لا بد في البداية من التوقف عند الرؤية الشرعية، فهي المرجعية الأولى في مثل هذه القضايا.

يستند بعض الفقهاء إلى قصة زواج النبي ﷺ من السيدة عائشة رضي الله عنها، معتبرين أن الشرع لم يضع سنًا محددًا للزواج، بل اشترط فقط البلوغ أو القدرة الجسدية على المعاشرة ومن ثم، يرون أن زواج القاصرات جائز إذا رآه الولي مناسبًا.

في المقابل، أكدت دار الإفتاء المصرية والأزهر الشريف أن هذه النصوص يجب أن تُقرأ في سياقها التاريخي، وأن الشرع يراعي دائمًا مقاصد الزواج، وعلى رأسها السكن والمودة والرحمة، وهي مقاصد لا تتحقق بزواج طفلة لم تنضج بعد.

استدل العلماء بقاعدة فقهية كبرى: "لا ضرر ولا ضرار"، مؤكدين أن كل ما يترتب عليه ضرر جسدي أو نفسي أو اجتماعي باطل من الناحية الشرعية، حتى لو استوفى الشكل القانوني للعقد.

حماية الطفولة

الأطباء وخبراء الطفولة يقدمون أدلة قاطعة على خطورة هذه الظاهرة:

تشير دراسات طبية إلى أن زواج القاصرات يزيد من معدلات الوفاة أثناء الحمل والولادة، لعدم اكتمال النمو الجسدي للفتيات.

كما ترتفع معدلات الإجهاض، وسوء تغذية الأمهات والأطفال على حد سواء.

نفسيًا، تعاني الفتيات من ضغوط هائلة نتيجة حرمانهن من التعليم وانخراطهن مبكرًا في أعباء زوجية وأمومية تفوق أعمارهن.

أما من الناحية القانونية، فقد حدد القانون المصري سن الزواج بـ 18 عامًا للذكور والإناث على السواء، واعتبر أي عقد يُبرم دون هذا السن باطلًا ولا يُوثق رسميًا غير أن كثيرًا من الزيجات تُعقد بعيدًا عن أعين القانون فيما يُعرف بـ الزواج العرفي أو عقود "السرية"، وهو ما يفاقم الأزمة.

الواقع الريفي بين العرف والضرورة

تُظهر الإحصاءات أن الظاهرة أكثر انتشارًا في القرى والنجوع، حيث تتداخل العادات الاجتماعية مع الضغوط الاقتصادية:

بعض الأسر ترى في تزويج البنت الصغيرة وسيلة لحمايتها من "الفتنة" أو لتقليل الأعباء المعيشية.

هناك أيضًا من يعتبر الزواج المبكر وسيلة لتأمين مستقبل الفتاة، خاصة إذا كان الزوج ميسور الحال.

في حالات أخرى، يدفع الفقر بعض الأهالي إلى تزويج بناتهم مقابل "مهر" يخفف من أعباء الحياة اليومية.

لكن الواقع يكشف أن هذه الزيجات كثيرًا ما تنتهي بالطلاق المبكر أو بترك الفتاة أرملة أو مطلقة في سن المراهقة، لتتحول من طفلة إلى أم مسؤولة عن أسرة دون أن تمتلك أدوات النضج النفسي أو الاجتماعي.

الدولة المصرية تحاول منذ سنوات مواجهة هذه الظاهرة عبر حزمة من الإجراءات:

قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته، شدد على حظر توثيق أي عقد زواج قبل بلوغ 18 عامًا.

وزارة العدل ألزمت المأذونين بعدم توثيق هذه العقود، ومن يخالف يُعرض نفسه للمساءلة.

مبادرات قومية مثل "احميها من الختان والزواج المبكر" انتشرت في القرى، لتوعية الأسر بمخاطر الظاهرة.

لكن العقبة الكبرى تظل في التحايل على القانون عبر الزواج العرفي أو عقود غير رسمية، مما يجعل الطفلة في وضع هش، بلا حقوق زوجية أو ميراثية أو حتى قانونية إذا انهار الزواج.

الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية

من زاوية أخرى، لا يمكن فصل الظاهرة عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي:

معدلات الفقر والبطالة تجعل بعض الأسر ترى في تزويج بناتها حلًا عمليًا.

الأمية والتسرب من التعليم يضاعفان من فرص وقوع الفتيات ضحية للزواج المبكر.

غياب الوعي الديني الصحيح يؤدي إلى خلط بين "الستر" المشروع وبين العرف الاجتماعي الذي قد يحوّل الزواج إلى أداة ضغط على الطفولة.

بين الشرع والواقع

زواج القاصرات إذن ليس قضية دينية فحسب، بل هو ظاهرة مركبة تتداخل فيها النصوص الفقهية مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فإذا كان الشرع لا يحدد سنًا للزواج، فإنه يضع قاعدة "تحقيق المصلحة ودفع المفسدة"، وهي قاعدة كافية لاعتبار الزواج المبكر ضررًا محققًا ينبغي منعه.

وفي المقابل، يظل الواقع الريفي بحاجة إلى توعية شاملة، لا تكتفي بالقوانين، بل تمتد إلى تغيير الثقافة المجتمعية، وتمكين الأسر من بدائل اقتصادية وتعليمية تحمي الفتيات من مصير زواج مبكر يحرمهن طفولتهن ويعرضهن لمخاطر لا حصر لها.

تم نسخ الرابط