رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

فقه الرفق بالحيوان.. صدام أم تكامل مع المواثيق الوضعية؟

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

بين مزارع الأبقار وأقفاص الطيور، ومن شوارع المدن المزدحمة بالقطط والكلاب الضالة إلى مقاطع “الذبح الحلال” المتداولة على المنصات، تتشكل صورة معقّدة لعلاقة المسلم بالحيوان: نصوصٌ تأسّس للرحمة والرفق، وممارساتٌ على الأرض لا تعكس دائمًا روح الشريعة.

يتجدد السؤال: كيف رسم الإسلام حقوق الحيوان؟ وهل تكفي المعايير الشرعية للذبح إذا غابت منظومة الرفق قبل الذبح وبعده؟ وما موقع جمعيات الرفق بالحيوان والمنظمات البيئية من هذا الجدل، بين من يراها حليفًا أخلاقيًا، ومن يتهمها بفرض قيم غريبة على ثقافتنا الغذائية والشرعية؟ هذا التحقيق يفتح الملف من زواياه الشرعية والبيئية والعملية، مستندًا إلى نصوص قطعية، وإلى واقع ميداني لا يخلو من تناقضات.

جذور شرعية راسخة.. حيوانات تحت مظلة “الرحمة للعالمين”

لا يبدأ الإسلام حقوق الحيوان من هامشٍ أخلاقي، بل من صميم الرسالة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، والـ“عالمون” تشمل الإنسان والحيوان والبيئة وتأتي نصوص تفصيلية تُحوِّل الرحمة إلى التزامات عملية:

تحريم التعذيب والإيذاء: في الحديث الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرّة حبستها، لا أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض وفي المقابل، غُفر لرجل سقَى كلبًا عطِشًا فشكر الله له فغفر له. معادلة أخلاقية حاسمة: الرحمة بالحيوان سببُ نجاة، والقسوةُ عليه سبب هلاك.

النهي عن اتخاذ ذوات الأرواح غرضًا: “لعن الله من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا”، أي هدفًا للرمي أو العبث؛ نصٌ يقطع الطريق على تسلية قاسية تُحوِّل الحيوان إلى لعبة.

الإحسان حتى في الذبح: قال ﷺ: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليحدّ أحدُكم شفرتَه وليرح ذبيحتَه” تتجاوز النصيحة شكليات السكين إلى جوهر المعاملة: تقليل الألم، تجنب التعذيب، وعدم الذبح أمام حيوانٍ آخر.

الرفق في الحمل والعمل: نهى ﷺ عن تحميل الدواب ما لا تُطيق، ووقف على بعيرٍ قد لَصق ظهرُه ببطنه من الجوع، فقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجَمة؛ فاركبوها صالحةً واتركوها صالحةً” إنه ضبطٌ لاقتصاد العمل الحيواني بميزانٍ أخلاقي.


بهذه القواعد، يصبح الحيوان “مخلوقًا له حق” لا مجرد موردٍ اقتصاديّ ويُدخل الفقهاء هذه الحقوق تحت أبواب “المصالح” و“سدّ الذرائع” و“رفع الضرر”، بما يوسّع دائرة الرفق من باب التطوع إلى واجبٍ شرعيّ.

الرفق بالحيوان 

لا تقتصر المسؤولية على تجنّب الإيذاء؛ بل تمتد إلى الإطعام والسقيا والرعاية: من اقتنى حيوانًا وجب عليه النفقة عليه، فإن قصّر أثِم ويسري ذلك على الحيوانات الأليفة وعمال الحقول ودواب النقل وفي المدن، تتحول القطط والكلاب الضالة إلى اختبارٍ أخلاقيّ ومهنيّ: كيف نوازن بين الصحة العامة والرحمة؟

التطعيم والتعقيم: تُقدِّم مقاربة  (الإمساك–التعقيم–الإعادة) حلًا أكثر إنسانية من التسميم أو الإطلاق العشوائي، بما يقلل التكاثر والأمراض ويصون التوازن البيئي.

منع التجويع: ترك الحيوان بلا طعامٍ أو ماءٍ مع القدرة إثمٌ صريح؛ وقد نصّ الفقهاء على ضمان النفقة أو نقل الملك لمن يستطيع الرعاية.

التوعية المدرسية والمسجدية: إدخال مفاهيم الرفق في خطب الجمعة ومناهج المدارس يحوّل النصوص إلى ثقافة عامة، لا إلى وعظٍ مناسباتي.

الذبح الشرعي بين النص والمعايير: “إحسانٌ” يسبق “الحلال”

لا خلاف على مشروعية الذبح للأكل، لكن الشريعة تصنع طبقات من الضبط:

1. شروط الذابح والآلة والعيْن: المسلم أو الكتابي، سكين حاد، تسمية الله، قطع الحلقوم والمريء والأوداج دون فصل الرأس أو تعذيب.

2. منع التعذيب قبل الذبح: لا يُسنّ السكين أمام الذبيحة، لا تُضرب أو تُسحب من قوائمها على الإسفلت، لا تُترك تحت الشمس أو في أقفاص خانقة.

3. تجهيزات ما قبل الذبح: استراحة للحيوان بعد النقل، ماء وغذاء كافيان، تخفيف الضوضاء والرائحة التي تُثير الذعر هذه ليست تفاصيل تقنية بل واجبات إحسان نصّت عليها السنّة وروحُ المقاصد.

4. قضية الصعق: اجتهادات معاصرة تُجيز الصعق غير المُميت الذي يبقي الحياة مستقرة حتى تذكية الدم، منعًا للألم وتقليلًا للمعاناة، بشرط تحقق الموت بالذبح لا بالصعق بينما تُمانع آراء أخرى خشية الموت قبل التذكية. المفصل الفقهي هنا: اليقين بأن الروح لا تُزهق إلا بالذبح.

5. سلاسل الإمداد: “الحلال” ليس لحظةَ سكينٍ فحسب، بل رحلة كاملة: تربية، وإطعام، ونقل. التحميل المفرط، وحبسٌ طويل دون ماء، وانكشافٌ للحرّ أو البرد ذلك يطعن في “الإحسان” وإن لم يُبطل “الحلّ”.

النتيجة: معيار الحلال الشرعي لا يُعفي من الالتزام بمعايير الرفق الحديثة، بل يتكامل معها؛ فـ“الإحسان” قيمة عليا فوق الحدّ الأدنى من “الإباحة”

جدَل الجمعيات البيئية والرفق: بين شريكٍ أخلاقي وضغطٍ ثقافي

تطرح جمعيات الرفق بالحيوان والمنظمات البيئية جملة مطالب: تحسين النقل، حظر الأسواق العشوائية، ضبط الذبح خارج المجازر، والتخلّي عن العنف ضد الضواري والطيور كيف يقرأ المسلم هذا الجدل؟

منطقة التوافق: حماية الحيوان من التعذيب، مكافحة الصيد الجائر، صيانة التنوع البيولوجي، مكافحة الاتجار غير المشروع كلها تلتقي مع قواعد الشرع في حفظ “النسل” و“الروح” و“البيئة”.

منطقة الخلاف: دعوات الامتناع الشامل عن أكل اللحوم لأسباب “أخلاقية محضة” تصطدم بإباحة الشرع للأكل مع الإحسان هنا يُؤكد الفقه على حق الاستهلاك المنضبط، ويرحّب بترشيدٍ يقلل الهدر والمعاناة دون تحريم ما أحلّ الله.

العمل الميداني: حملات التطعيم والتعقيم بديلًا عن القتل، وتطوير ملاذات مؤقتة، وتنظيم الإطعام الرشيد في الأحياء مجالات يمكن أن تكون فيها الجمعيات ذراعًا تنفيذية لرؤية شرعية رحيمة.

أسواق الماشية والنقل والمسالخ

المشهد الميداني يكشف نقاط ضعف مزمنة:

النقل: شاحنات مكتظة، حبال تشدّ من الأرجل، ساعات طويلة دون ماء ممارسات تخالف صريح الإحسان.

الأسواق: ضربٌ بالعصي، جرٌّ على الإسفلت، عرضٌ تحت شمسٍ لافحة؛ حين تتحوّل التجارة إلى قسوة يُصبح واجب السلطة والهيئات الدينية إعادة الانضباط.

المسالخ: الفارق كبير بين مجزرٍ يطبق الفصل بين الحيوانات، وصالاتٍ عشوائية حيث ترى الذبيحةُ ذبيحةً أخرى تُنحر هنا تستدعي السنّة: “وليرح ذبيحتَه”، أي تقليل رعبها قبل الذبح.

الحلول العملية ليست ترفًا: ممرات هادئة، فرشٌ غير منزلق، نقاط ماء، عمال مدرَّبون، وهيكل رقابي شرعي بلدي يُسائل ويغلق ويغرم.

فقه الواقع البيئي: الصيد، التوازن، والأنواع المهدَّدة

يوازن الإسلام بين إباحة الصيد للحاجات المشروعة، وتحريم الإفساد: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56] لا صيد في الحرم، ولا قتل للطيور والحيوانات عبثًا، ولا إبادة لأصنافٍ مهددة حفاظًا على “سُنن الخلق” التي قامت على الميزان: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7].
تتضافر هنا مقاصد الشرع (حفظ النفس والنسل والمال) مع أهداف البيئة (التنوع، التوازن، سلامة السلسلة الغذائية).

1. مدوّنة سلوك حلال–رفق: وثيقة تُصدرها جهة شرعية عليا مع وزارات الزراعة والصحة والبلديات، تُلزم المربين والمسالخ والأسواق بمعايير الرفق، وتربط الترخيص بشهادات تدريب.

2. تأهيل مهني: برامج إلزامية لعمّال النقل والذبح على فقه الإحسان وتقنيات تقليل الألم، مع عقوبات واضحة للمخالفات.

3. إصلاح سلاسل الإمداد: ساعات راحة وماء بعد النقل، تسقيفٍ ومظلّات في الأسواق، وفصل بصري وسمعي داخل المجازر.

4. إدارة حضرية للضواري: خطط  نقاط إطعام منظَّمة، وحملات توعية صحية شرعية تحارب التسميم العشوائي.

5. شراكات مع الجمعيات: تمويل مشروط بنتائج، وتبادل بيانات، وإشراك الأئمة والدعاة في حملات الرحمة بالحيوان بروح النصوص.

6. مراقبة رقمية: كاميرات بالمجازر والأسواق، منصات بلاغات عامة، ولوحات تصنيف تظهر امتثال كل منشأة لمعايير الرفق.

يلخّص الحديث النبوي المعيار الأعلى: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء” الذبح مباحٌ بنصٍّ صريح، لكن الإحسان واجبٌ بنصٍّ أصرح وبين مائدة الحلال ومنصّات المنظمات البيئية مساحةٌ واسعة يمكن أن تصبح جسرًا: إقامة الحقوق الشرعية للحيوان، واحترام نداءات العلم والبيئة، دون التنازل عن خصوصية التشريع.

حين تُدار المزارع والأسواق والمسالخ بميزان الرحمة، وحين تُعالج قضايا الضواري بعلمٍ وإحسان، يتحول “الرفق بالحيوان” من شعارٍ موسمي إلى ثقافة مجتمعية تؤدي عبادةً خالصة: عبادةَ الإحسان إلى مخلوقاتٍ تشاركنا الأرض وتخضع معنا لربٍّ واحد هكذا فقط تصدق العبارة: الإسلام وحقوق الحيوان نصوصٌ من السماء، وممارساتٌ على الأرض.

تم نسخ الرابط