جدل حول حق الزوج في تأديب الزوجة.. بين النص القرآني وروح الشريعة

نزلت آيات من القرآن الكريم نظمت أدق تفاصيل الحياة الأسرية، ووضعت أسسًا متينة للعلاقة بين الزوجين تقوم على المودة والرحمة إلا أن آية واحدة من سورة النساء، هي قوله تعالى:
“وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا” (النساء: 34)،
أثارت منذ قرون وما تزال حتى اليوم نقاشًا واسعًا بين المفسرين والفقهاء والمفكرين وحقوقيي العصر.
فبين من يراها مخرجًا استثنائيًا لعلاج حالات شاذة من النشوز، ومن يستغلها لتبرير العنف الأسري، تتأرجح الرؤى وتتباين الممارسات. ويبقى السؤال المركزي: هل الإسلام يشرعن ضرب المرأة أم يضيّق عليه ويقيده حتى يكاد ينفيه؟
هذا التحقيق يحاول تقديم قراءة موسعة تجمع بين التفسير التراثي، والرؤيةالشرعية، ومكانة المرأة في الشريعة، مع عرض الممارسات الاجتماعية والحقوقية، وصولًا إلى رؤية متوازنة تعيد للنص القرآني بريقه ولمكانة المرأة في الإسلام حقها.
أولًا: تفسير الآية الكريمة
معنى النشوز
النشوز في اللغة من "النشز" أي الارتفاع، ويُراد به في السياق القرآني عصيان الزوجة وخروجها عن طاعة الزوج بما يهدد استقرار الأسرة وقد أوضح المفسرون أن النشوز ليس مجرد خلاف عابر، بل سلوك متكرر يهدد الحياة الزوجية.
التدرج في العلاج
الآية وضعت خارطة علاجية متدرجة:
1. الوعظ: بالكلمة الطيبة والإرشاد.
2. الهجر في المضجع: إظهار الغضب بشكل غير مباشر بعيدًا عن العنف.
3. الضرب غير المبرح: كخيار أخير مشروط بعد استنفاد الوسائل السابقة.
الضرب غير المبرح
المفسرون شددوا على رمزية الضرب، فابن عباس قال: "بالسواك ونحوه"، أي إشارة معنوية أكثر منها جسدية أما القرطبي فاعتبره مكروهًا إذا لم يحقق إصلاحًا. وذهب ابن كثير إلى أن الضرب مقيد بأن لا يكسر عظمًا ولا يجرح جسدًا.
ثانيًا: الرؤية المقاصدية للشريعة الإسلامية
عند النظر إلى مقاصد الشريعة، نجد أن الزواج في أصله ميثاق مودة ورحمة، كما قال تعالى:
“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” (الروم: 21).
من هذا المنطلق، لا يُفهم "الضرب" إلا كوسيلة استثنائية محدودة، بعيدة عن الإهانة. كما أن السنة النبوية جاءت مفسرة للنص: فالنبي ﷺ لم يثبت عنه أنه ضرب زوجة قط تقول عائشة رضي الله عنها: "ما ضرب رسول الله ﷺ شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله" (رواه مسلم).
بالتالي، فإن مقاصد الشريعة في حفظ النفس والكرامة تجعل الضرب وسيلة شبه معدومة التطبيق عمليًا.
ثالثًا: حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية
1. الكرامة الإنسانية: الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في الإنسانية والتكليف، كما في قوله تعالى:
“مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” (النحل: 97).
2. المعاشرة بالمعروف: قال تعالى: “وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” (النساء: 19) وقد فسّر العلماء "المعروف" باللين والرحمة والرفق.
3. الحماية من الظلم: النبي ﷺ أوصى في خطبة الوداع قائلًا: “استوصوا بالنساء خيرًا” (رواه البخاري ومسلم).
رابعًا: مواقف الفقهاء عبر العصور
المالكية: الضرب مكروه ولو أُبيح، والأصل المعاشرة بالمعروف.
الشافعية والحنابلة: الضرب غير المبرح فقط، وبشرط نية الإصلاح.
ابن عاشور: الآية جاءت لمعالجة حالات خاصة لا قاعدة عامة.
خامسًا: بين النص الشرعي والممارسات الاجتماعية
الإشكال ليس في النص بل في تطبيقه فكثير من الرجال اتخذوا الآية ذريعة للسيطرة والعنف، في حين أن الشريعة لم تجز ذلك.
منظمات حقوقية وثّقت مئات حالات العنف الأسري المبرر باسم الدين.
علماء معاصرون دعوا إلى تجاوز الفهم الحرفي والعودة إلى روح الشريعة القائمة على الرحمة.
سادسًا: رؤية معاصرة متوازنة
شرعيًا: الضرب مكروه ومقيّد ومشروط، والسنة النبوية لم تشجعه.
اجتماعيًا: الحوار، التربية الواعية، والوساطة الأسرية بدائل عملية.
حقوقيًا: الإسلام سبق القوانين في حماية المرأة، لكن التحدي يكمن في التطبيق.
1. تصحيح المفاهيم: الإسلام لا يبيح العنف ضد المرأة.
2. تغليب المقاصد: المودة والرحمة أساس الحياة الزوجية.
3. الاقتداء بالسنة: النبي ﷺ لم يضرب زوجة قط.
4. حملات توعية: إشراك المؤسسات الدينية والإعلامية في توضيح الموقف الشرعي.
5. بدائل عملية: تشجيع الوساطة الأسرية والقانونية بدل العنف.
النص القرآني في سورة النساء لا يُشرعن العنف ضد المرأة، بل وضع علاجًا استثنائيًا لحالات النشوز مع ضوابط تكاد تجعل الضرب غير المبرح رمزيًا أكثر منه فعليًا أما الأصل، فهو ما جسده النبي ﷺ بسيرته، إذ عاش مع أزواجه بالرفق والرحمة دون أن يستخدم يده في أذى.
وهكذا يبقى الإسلام دين تكريم للمرأة، يؤكد على شراكتها الكاملة في بناء الأسرة والمجتمع، ويجعل من المودة والرحمة الركيزة الكبرى للعلاقة الزوجية.