هل احتفل الصحابة بالمولد النبوي؟.. دار الإفتاء تحسم الجدل

يتجدد الجدل في كل عام مع اقتراب ذكرى المولد النبوي الشريف، بين من يراها مناسبة دينية مشروعة تُعبر عن الحب والوفاء لرسول الله ﷺ، وبين من يصفها بالبدعة التي لم يعرفها صدر الإسلام الأول ومع تصاعد هذا النقاش على منصات التواصل الاجتماعي، جاء سؤال مباشر إلى دار الإفتاء المصرية عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك: "اذكر ثلاثة من الخلفاء الراشدين، وثلاثة من التابعين احتفلوا بالمولد النبوي؟"، في إشارة إلى التشكيك في أصل الاحتفال.
لكن الرد الذي خرج من دار الإفتاء حمل رؤية شرعية وتاريخية متكاملة، فصلت بين مفهوم البدعة ومجالاتها، مؤكدًا أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي ليس فقط جائزًا، بل يعد بدعة حسنة تندرج تحت أبواب العبادات المستحبة، وتستند إلى أصول راسخة من القرآن والسنة وأعمال الأمة عبر تاريخها.
البدعة بين الذم والمدح.. التوضيح الشرعي
بدأت دار الإفتاء ردها ببيان دقيق لمفهوم البدعة، حيث أوضحت أن البدعة لغةً وشرعًا ليست كلها في دائرة التحريم، بل إن علماء الإسلام قسموها إلى نوعين: حسنة وسيئة. واستشهدت بقول النبي ﷺ:
«من سنَّ في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، لا ينقص من أوزارهم شيء» (رواه مسلم).
واستشهدت بقوله ﷺ: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص من آثامهم شيء» (رواه مسلم).
وبذلك، يتضح أن المقياس في الحكم على أي عمل محدث هو مضمونه وغاياته؛ فإن كان يحمل خيرًا ويوافق مقاصد الشريعة، فهو حسن ومستحب، وإن كان على خلاف ذلك فهو مذموم ومرفوض.
المولد النبوي بين البدعة الحسنة والضلالة
تؤكد دار الإفتاء أن القول بأن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة منكرة هو قول غير دقيق؛ لأن الاحتفال يتضمن أعمالًا مشروعة في أصلها، مثل:
قراءة القرآن الكريم.
ذكر الله تعالى.
الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ.
استحضار سيرته العطرة ومواقفه النبوية.
الإنشاد والمدائح النبوية التي تثير محبة الرسول في القلوب.
وبذلك، فإن الاحتفال لا يخرج عن إطار التعبير المشروع عن محبة الرسول ﷺ، بل يدخل في باب "البدعة الحسنة"، وهي التي أقرها جمهور العلماء واعتادتها الأمة الإسلامية عبر القرون.
سوابق تاريخية للخلفاء الراشدين والتابعين
لم يتوقف رد الإفتاء عند الجانب الفقهي فقط، بل أبرز أن الخلفاء الراشدين أنفسهم أحدثوا ممارسات لم تكن موجودة في زمن النبي ﷺ، لكنها وافقت الشرع واحتاجتها الأمة، ومنها:
جمع القرآن الكريم في مصحف واحد على يد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
جمع الناس على صلاة التراويح خلف إمام واحد بأمر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال عنها: «نعمت البدعة هذه».
الأذان الأول يوم الجمعة الذي أضافه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه لتنبيه الناس.
تنقيط المصحف الشريف على يد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حفاظًا على القراءة الصحيحة.
هذه الممارسات، رغم أنها لم تكن في عهد النبي ﷺ، إلا أن الأمة تلقتها بالقبول وأصبحت من السنن العملية المتوارثة، وهو ما يثبت أن ما وافق الشرع ومقاصده فهو مشروع، حتى لو لم يُفعل في زمن النبوة.
الاحتفال بالمولد بين العلماء والمجتمع
لم يقتصر الأمر على الخلفاء، بل إن علماء الأمة الكبار عبر القرون قد اهتموا بذكرى المولد النبوي، فألفوا فيها الكتب وأقاموا لها المجالس، ومن أبرزهم:
الإمام السيوطي بكتابه حسن المقصد في عمل المولد.
الحافظ ابن حجر العسقلاني.
الإمام العراقي.
الإمام ابن دحية الذي كان من أوائل من صنف في الموضوع.
وتحوّل المولد النبوي في المجتمعات الإسلامية إلى مناسبة روحانية وثقافية تجمع بين العبادة والذكر والتواصل الاجتماعي، حيث تقام مجالس الذكر وتوزع الصدقات، ويجدد المسلمون فيها عهد المحبة مع رسول الله ﷺ.
المولد النبوي في ميزان المقاصد الشرعية
ترى دار الإفتاء أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي يحقق مقاصد عظيمة للشريعة الإسلامية، من أبرزها:
1. تعميق محبة الرسول ﷺ في نفوس المسلمين، وهو أصل من أصول الإيمان.
2. إحياء القيم النبوية من رحمة وعدل وإحسان.
3. تجديد الصلة بالقرآن والسنة من خلال مجالس الذكر والتلاوة.
4. تحفيز الأمة على الاقتداء بالنبي ﷺ في حياته وأخلاقه.
وبذلك، فإن الاحتفال لا يخرج عن دائرة المشروع والمستحب، بل يحقق أهدافًا عليا تتماشى مع روح الشريعة.
أوضحت دار الإفتاء المصرية، في ردها المفصل، أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليس بدعة ضلالة كما يدعي البعض، بل هو بدعة حسنة تدخل في دائرة المشروع والمرغوب فالاحتفال بهذه الذكرى العطرة ليس مجرد طقس اجتماعي، وإنما هو استحضار لسيرة أعظم إنسان بعثه الله رحمة للعالمين.
ولعل هذا الرد يضع حدًا للجدل المتكرر كل عام، مؤكدًا أن حب النبي ﷺ والاحتفاء بذكرى مولده يظل من أعظم القربات التي تعبر عن ارتباط الأمة بنبيها، وتجديد العهد على السير على هديه في زمن تشتد فيه الحاجة إلى قيم الرحمة والعدل والإنسانية التي جسدها في حياته.