المولد النبوي.. بين الاحتفال المشروع والبدعة المحدثة

منذ قرون طويلة، لم يغب الجدل بين العلماء حول مشروعية الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف فبينما يرى فريق من العلماء أن هذه المناسبة فرصة عظيمة لإحياء سيرة النبي ﷺ، والتذكير برسالته وأخلاقه، يتمسّك آخرون بقاعدة "كل بدعة ضلالة"، مؤكدين أن النبي ﷺ وصحابته لم يحتفلوا بمولده، ولو كان في ذلك خير لسبقونا إليه.
وهكذا ظل الخلاف قائمًا، ليتحوّل المولد إلى قضية دينية وثقافية واجتماعية تعكس اختلاف الرؤى حول معنى الاتباع والتعبير عن المحبة.
أدلة المؤيدين: محبة للنبي وذكر لله
المؤيدون للاحتفال بالمولد يستندون إلى جملة من الأدلة الشرعية والمقاصدية:
إظهار الفرح بمولد النبي: يستشهدون بحديث النبي ﷺ حين سُئل عن صيام يوم الاثنين فقال: "ذلك يوم وُلدت فيه" (رواه مسلم) ويقولون إن في هذا دلالة على مشروعية إظهار الفرح والعبادة في يوم مولده.
عموم الأمر بالذكر والشكر: يستدلون بقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: 5]، معتبرين أن ميلاد النبي من أعظم "أيام الله" التي يجب تذكير الأمة بها.
مقصد التربية والمحبة: يقولون إن إقامة مجالس المولد تربي الأجيال على محبة النبي ﷺ والتعلق بسنته، لا سيما في زمن طغت فيه الماديات وتراجعت القدوات.
أدلة المعارضين: السنة لم تعرفه
أما الفريق المعارض، فيعتمد على أصول صارمة من الفقه:
عدم فعله من النبي ولا الصحابة: يؤكدون أن النبي ﷺ لم يحتفل بمولده، ولم يأمر بذلك، ولا فعله أحد من الصحابة أو التابعين، ما يجعل الأمر وفق منظورهم من البدع المحدثة.
التحذير من البدع: يستندون لحديث النبي ﷺ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (متفق عليه)، وحديث: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" (رواه النسائي وأبو داود).
تشويش العقيدة: يعتبرون أن الموالد قد تتحول إلى مظاهر لا تخلو من المبالغات والغلو في شخصية النبي ﷺ، مما يفتح بابًا لممارسات غير مشروعة.
التدين الشعبي: بين الذكر والاحتفالات
بعيدًا عن الجدل الفقهي، يكشف الواقع أن المولد النبوي بات جزءًا من التدين الشعبي في كثير من الدول الإسلامية ففي مصر مثلًا، تنتشر "حلاوة المولد" ومجالس الذكر والمدائح، بينما يقام في المغرب والمغرب العربي احتفالات صوفية واسعة، تتخللها قراءة القرآن والإنشاد الديني ويرى باحثون أن هذه المظاهر الشعبية تعكس حاجة المجتمعات إلى طقوس جماعية للتعبير عن الهوية الدينية والتواصل الروحي.
المواقف الرسمية.. بين الفتوى والسياسة
تباينت المواقف الرسمية بين الدول الإسلامية:
الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية: أكدت مشروعية الاحتفال بالمولد بضوابط شرعية، باعتباره مناسبة للتذكير بسيرة النبي ﷺ دون الوقوع في الغلو أو المخالفات.
المملكة العربية السعودية: ظل الموقف متشددًا تاريخيًا ضد الموالد، باعتبارها من البدع، رغم أن الموقف الشعبي يتسم أحيانًا بالمرونة خارج الإطار الرسمي.
المغرب والجزائر والسودان: اعتمدت الاحتفال الرسمي بالمولد كجزء من التقاليد الدينية والوطنية.
يؤكد علماء مقاصد الشريعة أن القضية ليست في مجرد الاحتفال أو تركه، بل في جوهر التعبير عن محبة النبي ﷺ. فإذا كان المولد فرصة لتعريف الناس بسيرته وتعاليمه، ونشر قيم الرحمة والعدل التي جاء بها، فهو أمر محمود أما إذا تحول إلى مظاهر شكلية أو إلى بدع وغلو، فيكون حينها مذمومًا.
أصوات الشباب.. بين الحيرة والبحث عن قدوة
بين الشباب المسلم، يظل الموقف من المولد متذبذبًا فالبعض يراه مناسبة جميلة تعزز انتماءه الديني، بينما يتأثر آخرون بفتاوى التحريم التي تنتشر على مواقع التواصل ويؤكد باحثون أن هذا الجيل يحتاج إلى خطاب متوازن يربط الاحتفال بالمولد بالاقتداء العملي بالنبي ﷺ، لا بالاكتفاء بالطقوس.
يبقى المولد النبوي الشريف ساحةً يتقاطع فيها الفقهي بالشعبي، والعاطفي بالعقلاني وبين مؤيدين يرونه ذكرًا وشكرًا، ومعارضين يعدونه بدعةً مرفوضة، تظل القاعدة الأصولية الجامعة: "المحبة الصادقة للنبي ﷺ تُقاس بمدى الاتباع لسنته، لا بمجرد الاحتفال بمولده" ومع ذلك، يظل المولد مناسبة لا يمكن إنكار أثرها في وجدان الأمة، فهو جسر يربط بين المسلمين وسيرة نبيهم، شريطة أن يبقى منضبطًا بالشرع ومقاصده.