رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

لعبة الطيارة وفتاوى العلماء في إدمان المراهنات الرقمية

أرشيفية
أرشيفية

في الوقت الذي تشهد فيه منصات الألعاب الإلكترونية تطورًا مذهلًا، تسللت إلينا ألعاب تحمل في طياتها بذور الخراب الأخلاقي والاقتصادي، أبرزها ما يُعرف بـ"لعبة الطيارة" هي ليست مجرد لعبة تسلية كما تبدو في ظاهرها، بل ساحة مراهنة رقمية تعتمد على الحظ المحض وتجر مستخدميها، خصوصًا من الشباب والمراهقين، إلى هاوية المقامرة المعاصرة ومع تصاعد الانتشار السريع لتطبيقات مثل "الطيارة"، أطلقت المؤسسات الدينية والعلماء صرخات التحذير، مؤكدين أن هذه اللعبة ما هي إلا نسخة إلكترونية من الميسر المحرّم صراحة في القرآن الكريم.


لعبة "الطيارة" تعتمد على رهان المستخدم على لحظة تحليق طائرة افتراضية وتحطمها، بحيث كلما انتظر أكثر زاد ربحه، وإذا لم يتوقف قبل سقوط الطائرة، خسر كل شيء هذا النمط من الألعاب يخلق وهم السيطرة بينما الواقع أنها خاضعة لخوارزميات محكومة لا يمكن التنبؤ بها الفكرة ليست سوى صورة محدثة للمقامرة التقليدية، وخدع برمجية، تجذب المستخدم وتخدّره حتى يدمنها.

الأخطر من ذلك أنها متاحة في كل هاتف محمول، بلا أي رقابة حقيقية، ما يجعلها ضمن متناول الأطفال والمراهقين في ظل غياب الرقابة الأسرية أو التوعية المجتمعية الكافية.

الرأي الشرعي: بين النص القرآني ومقاصد الشريعة

الإسلام يحرّم الميسر تحريمًا قاطعًا لا لبس فيه، كما قال الله تعالى في سورة المائدة:
﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

وأكّدت دار الإفتاء المصرية في بيان رسمي لها أن "لعبة الطيارة" وما شابهها من الألعاب التي تقوم على الرهان، لا تختلف في جوهرها عن القمار، لأن الربح فيها مبني على الحظ، لا على الجهد أو الاستثمار الحقيقي، وبالتالي فهي محرّمة شرعًا، ويحرم الاشتراك فيها أو الترويج لها.

الشيخ الدكتور خالد عمران، أمين الفتوى بدار الإفتاء، قال في إحدى تصريحاته:
"كل لعبة أو معاملة مالية مبنية على قاعدة (إما أن تربح كل شيء أو تخسر كل شيء) فهي من صور القمار المحرّمة شرعًا، مهما تغيّر شكلها أو آليتها الإلكترونية."

واحدة من أكثر المغالطات شيوعًا أن بعض مروّجي هذه الألعاب يحاولون تشبيهها بالاستثمار أو التداول في الأسواق المالية، لكن هذا التبرير لا يصمد أمام أي تحليل شرعي أو اقتصادي.

الاستثمار يقوم على دراسات واحتمالات مدروسة وجهد مبذول، بينما ألعاب مثل "الطيارة" تعتمد على حظ عشوائي، دون إنتاج حقيقي أو منفعة اقتصادية للمجتمع.

وقد أوضحت هيئة الرقابة المالية في أكثر من دولة عربية الفرق بين الاستثمار الذي يستند إلى مؤشرات السوق والتحليل المالي، وبين المراهنات التي تعتمد على احتمال الربح أو الخسارة المحضة.

الأبعاد النفسية والاجتماعية: الإدمان والانهيار الأسري

الآثار النفسية لهذه الألعاب لا تقل خطورة عن الخسائر المالية، فالدراسات تشير إلى أن ألعاب المراهنة الإلكترونية تخلق سلوكًا إدمانيًا يشبه إدمان المخدرات. يبدأ الأمر بشغف التجربة ثم يتحول إلى عادة، ثم إلى احتياج نفسي قهري يصعب السيطرة عليه.

وقد تسببت هذه الألعاب في تدمير حياة مئات الشباب، بينهم طلاب جامعات ومراهقون، بل وشهدنا في بعض الدول العربية حالات انتحار بسبب خسائر ضخمة ناتجة عن إدمان "الطيارة" وأمثالها.

كما أن هذه الظاهرة بدأت تؤثر على استقرار الأسر، حيث اضطر العديد من الآباء إلى تسديد ديون أبنائهم أو الدخول في صراعات أسرية بسبب هذه اللعبة.


دور الأسرة والإعلام والمؤسسات الدينية في المواجهة

لمواجهة هذا الطوفان الرقمي، لا بد من تكاتف المجتمع بكل مؤسساته:

الأسرة: يجب أن تراقب عن كثب محتوى الهواتف الذكية لأبنائها، وتوفر بدائل تعليمية وترفيهية هادفة.

المدرسة: لا بد أن تنخرط في التوعية الرقمية، من خلال ورش عمل ومحاضرات تثقيفية عن الألعاب الخطرة.

الإعلام: عليه أن يتوقف عن الترويج غير المسؤول لهذه الألعاب، بل ويبدأ في عرض برامج تحقيقية عن آثارها السلبية.

الدعاة والعلماء: عليهم تكثيف وجودهم على المنصات الرقمية نفسها، وتقديم فتاوى وتوعية شرعية بلغة يفهمها الشباب، تُظهر المفارقة بين اللهو المباح والميسر المحرّم.

العديد من الدول بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات فعلية لحجب هذه الألعاب أو على الأقل منع وسائل الدفع الإلكتروني المرتبطة بها لكن هناك حاجة ملحة لتشريعات أشد صرامة تُلزم منصات التطبيقات بحذف هذه الألعاب، ومعاقبة الجهات التي تروّج لها، خاصة تلك التي تستهدف الأطفال.

كما ينبغي أن يُنظر إلى هذه الألعاب ضمن إطار الأمن السيبراني، باعتبارها تهدد الأمان المالي والأسري والنفسي لشريحة واسعة من المجتمع.

مسؤوليتنا جميعًا أمام مقامرة العصر

إن ما يحدث اليوم تحت اسم "الترفيه الرقمي" يحمل في طياته أخطارًا لا تقل عن المخدرات والميسر التقليدي والمجتمع الذي يغض الطرف عن هذه الظواهر يدفع ثمنها في انهيار القيم، وتفكك الأسر، وضياع الشباب.

الواجب لا يتوقف عند الفتوى الشرعية، بل يجب أن يتحول إلى وعي مجتمعي وحملة توعوية شاملة، تُخرج الناس من دوائر الإدمان إلى ساحات الوعي، وتعيد تعريف الترفيه وفق ضوابط الشرع ومصلحة العقل والمال والروح.

 

تم نسخ الرابط