مقاطع الريلز: متعة بصرية أم إدمان رقمي؟ بين الانبهار اللحظي وفقدان الذات

في أغسطس 2020، أطلق تطبيق "إنستجرام" ميزة جديدة أثارت ضجة في عالم المحتوى الرقمي: مقاطع "الريلز"، وهي تنسيق فيديو قصير يُصاحب عادةً بالموسيقى، والمؤثرات البصرية، والصوتيات الجذابة، وتأثيرات الواقع المعزز الهدف كان واضحًا: خلق تجربة مرئية ترفيهية تواكب عصر السرعة وتنافس الصعود العالمي لتطبيق "تيك توك".
لم تمضِ سنة على هذا الإطلاق حتى قرر "فيسبوك"، في سبتمبر 2021، أن يلتحق بالركب ويعتمد تنسيق "الريلز" ضمن منصته، مستثمرًا خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتقديم محتوى مخصص للمستخدمين، يظهر في صفحات "الموجز" أو قسم الفيديو، ويعتمد على تحليل اهتمامات وسلوكيات الأفراد.
وتطورت المسألة من مجرد مشاهدة عابرة إلى عادة يومية، ثم إلى حالة من الإدمان الرقمي المقلق، خاصة بين فئات الشباب والمراهقين، لتطرح تساؤلات جوهرية حول الأثر النفسي والاجتماعي لهذه الظاهرة.
في الظاهر، تبدو "الريلز" مجرد مقاطع مرحة، لا تتجاوز الـ60 ثانية، إلا أنها باتت تمثل مصدر إلهاء دائم، وسحبًا تدريجيًا للفرد نحو دوامة من المحتوى المتكرر والسطحي، مما يؤثر على الصحة النفسية والتركيز والانخراط الاجتماعي.
أخصائيون في الطب النفسي يحذرون من أن الاستهلاك المفرط لهذا النوع من المحتوى قد يؤدي إلى أعراض تشبه إلى حد كبير أعراض القلق الاجتماعي، ومنها:
التعرق الشديد.
احمرار الوجه والارتجاف.
تسارع نبضات القلب والغثيان.
التحدث بخفوت وعدم التواصل البصري.
صعوبة في التفاعل مع الآخرين، وتراجع الثقة بالنفس.
تجنب اللقاءات الاجتماعية، والشعور بالاغتراب والانفصال عن الواقع.
وقد رُبط ذلك بتأثير "الريلز" على مفهوم المكافأة السريعة في الدماغ، حيث يُصبح المستخدم معتمدًا على تدفق سريع من المتعة اللحظية، دون قدرة على التوقف أو التحكم الذاتي.
عشرة آثار سلبية للإفراط في مشاهدة "الريلز"
لا تقتصر أضرار مقاطع "الريلز" على الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى البنية الاجتماعية والسلوكية للإنسان المعاصر وفيما يلي أبرز عشر نتائج سلبية رُصدت لدى المدمنين على هذا النمط من المحتوى:
1. فقدان السلام النفسي الداخلي: نتيجة استهلاك مستمر لمحتوى مثير وسريع، يعجز الفرد عن تحقيق الاستقرار الذهني.
2. الإحباط وعدم الرضا عن الحياة: مقارنة النفس بالآخرين تُعزز مشاعر النقص والتقصير.
3. التسرع في اتخاذ القرارات: العقل يتعود على الإيقاع السريع، مما يؤثر على تقييم الأمور بموضوعية.
4. اضطراب في التمييز بين الصواب والخطأ: بسبب تعرض الفرد لمضامين متناقضة دون مرجعية أخلاقية واضحة.
5. فقدان التقدير للجمال الحقيقي في الحياة: حيث يُصبح الدماغ مدمنًا على الإثارة الفورية.
6. الغضب عند توقف المحتوى: زوال "السعادة الرقمية المؤقتة" يولد مشاعر عدوانية.
7. إحساس بالإدمان عند الابتعاد: حيث يشعر الفرد بفراغ شديد عند عدم المشاهدة.
8. العجز عن إشباع الرغبات: بسبب الانفصال عن الواقع والاكتفاء بالمحتوى الافتراضي.
9. إهدار الوقت والشعور بالفراغ: مما يؤثر على التحصيل العلمي والوظيفي.
10. تفكك الروابط الأسرية: نتيجة الانعزال المستمر والانغماس في العالم الافتراضي.
كيف نتجنب الإدمان؟ روشتة نفسية من الواقع إلى الوعي
لمواجهة هذا النمط من الإدمان العصري، قدّم الدكتور هاشم بحري، أستاذ الطب النفسي، مجموعة من التوصيات العملية التي تساعد على تقليل الاعتماد على "الريلز" وتوجيه الطاقة النفسية نحو نشاطات أكثر فائدة واستقرارًا:
1. العودة إلى الجسد: الرياضة كحلّ نفسي
ممارسة التمارين الرياضية لا تساعد فقط على تحسين اللياقة البدنية، بل تلعب دورًا حاسمًا في تحسين الحالة المزاجية، وتنشيط إفراز هرمونات السعادة بشكل طبيعي ومستدام.
2. الانشغال بالثقافة والفن: غذاء العقل والروح
قراءة الكتب، مشاهدة الأفلام الهادفة، أو حضور عروض فنية وموسيقية تُعيد تشكيل الذائقة الجمالية، وتمنح الفرد شعورًا أعمق بالإنجاز والمتعة.
3. العلاقات الإنسانية: الدواء المجاني
الاهتمام بالعلاقات الأسرية والصداقات الواقعية يسهم في تقليل الاعتماد على الشاشات، ويُعيد للفرد إحساسه بالانتماء والحب والدعم المتبادل.
4. العمل التطوعي والجمعيات الخيرية
الانخراط في أنشطة مجتمعية تطوعية يمنح الإنسان هدفًا أسمى، ويعزز الشعور بالقيمة الذاتية بعيدًا عن معايير الشهرة واللايكات.
5. السفر واكتشاف العالم الحقيقي
رحلات قصيرة داخل البلد أو إلى الخارج، تساعد على تفريغ الطاقة السلبية، وتجديد الروح، وإعادة اكتشاف الجمال الواقعي بعيدًا عن التمرير السريع للمقاطع.
6. الهوايات كملاذ آمن
سواء كانت الرسم، أو الطهي، أو الكتابة، أو العزف، فإن الهوايات تُعتبر مساحة خاصة تتيح للفرد التعبير عن نفسه، وبناء هوية شخصية متكاملة.
بين المتعة والإفراط
يبقى السؤال الأهم: من يتحمّل مسؤولية هذا الإدمان الرقمي؟ هل هي شركات التكنولوجيا التي صممت هذه الأدوات لجذب الانتباه؟ أم المستخدم الذي يستهلك دون وعي؟ أم الأسر والمؤسسات التربوية التي تركت فراغًا ملأته "الريلز"؟
الجواب ربما يكون مركبًا، لكن الحقيقة الثابتة هي أن مقاطع "الريلز" أصبحت أكثر من مجرد ترفيه إنها تجربة حسية متكاملة، تُدمن وتستهلك وتشكّل العقول والمجتمعات وبين متعة اللحظة وخراب البنية النفسية، تبرز الحاجة إلى وقفة وعي، وحوار داخلي جاد، يعيد للإنسان حريته من قبضة الشاشة الصغيرة.
التحوّل الذي صنعته مقاطع "الريلز" في ثقافتنا اليومية لا يمكن إنكاره، لكنه يحمل بين طياته مسؤولية كبرى تجاه الذات والمجتمع وبين أن تكون "الريلز" أداة ترفيه ذكية، أو لعنة رقمية خفية، يكمن القرار في يد المستخدم... فإما أن تُحسن استخدام الوقت، أو يستهلكك الوقت في زيف اللقطات القصيرة.