خيوط من نور.. كسوة الكعبة وسر مصري على جدران مجمع الملك عبد العزيز

في قلب مكة المكرمة، وفي مكان يغلب عليه السكون المهيب والرهبة، تبدأ رحلة نسج أعظم ثوب على وجه الأرض، ثوب لا يعد مجرد كساء، بل قطعة من الجلال، تلبس للكعبة المشرفة مرة واحدة كل عام، في مشهد يختلط فيه البهاء بالتقوى ويشرح صدر الأمة الإسلامية احتفالا بـ أجواء أداء مناسك الحج.
كيف تنسج كسوة الكعبة
بمجرد وصولك مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة، تلمح عيونك مشهد لا يُنسى، رجال يعملون بصبر وإتقان، كأنهم يؤدّون صلاة من نوع آخر، بين أنوال تغزل، وأيدٍ تُطرّز، وقلوب تخفق بخشوع، لا صوت يعلو هناك إلا صوت الآيات التي تتردد في القاعات، وتتماوج مع رائحة الحرير وماء الذهب.
خيوط كسوة الكعبة
الرحلة تبدأ بخيوط من حرير طبيعي نقي، تجلب خصيصًا من إيطاليا، لتصبغ بعد ذلك بالأسود الداكن داخل المصنع، في عملية دقيقة تُظهر تدرجات الظلال وكأنها لوحة فنية، تغسل الخيوط وتجفف، لتتحول من خيوط بيضاء إلى خيوط سوداء شديدة النعومة والقوة، قادرة على مقاومة شمس الحجاز ورياحها.
عقب ذلك تدخل الخيوط مرحلة النسيج، حيث تحاك كسوة الكعبة على 47 قطعة من القماش بعرض يقترب من المتر وبارتفاع يتجاوز 14 مترا، يجمعها أكثر من 150 صانعا ماهرا، بينهم من يقضي سنوات طويلة في التدريب ليصبح أهلًا لهذا الشرف.
بعد ذلك تبدأ المرحلة الذهبية، حيث تطرز الآيات الكريمة بخيوط من ذهب وفضة، تستورد من ألمانيا وتُطلى بماء الذهب النقي، لتُكتب بها كلمات التوحيد، وعبارات تزيّن جوانب الكعبة مثل "يا رحمن يا رحيم" و"الله أكبر"، وكأنها قناديل نور معلقة على جدران البيت العتيق، وفي الركن الآخر، يقف بعض العمال أمام شاشة الكمبيوتر لمتابعة مراحل الطباعة والتجميع، ثم تبدأ رحلة الخياطة الدقيقة، التي تنتهي بتجهيز الستارة الداخلية لباب الكعبة، وهي الجزء الأكثر حساسية وتعقيدًا، ويُعتبر تثبيتها من أدق مراحل العمل.
التكلفة الإجمالية لهذا العمل بلغت هذا العام 250 مليون ريال سعودي، بحسب ما كشفه أحمد السويهرى مدير العلاقات والإعلام بالمجمع، حيث تعد هذه الزيادة سببها ارتفاع أسعار الخامات النادرة والمستوردة، من الحرير الفاخر وخيوط الذهب والفضة، وتكفّل بهذه النفقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز من ماله الخاص، في دلالة على عظمة ما تمثله الكعبة للمملكة.
علاقة مصر بـ كسوة الكعبة
على جدران المجمع، تُعرض قطع أثرية من كسوات قديمة أرسلتها مصر في سنوات مضت، في استعادة لذكريات المحمل المصري، الذي كان يخرج من حي الحسين في القاهرة متجهًا نحو مكة، حاملًا معه هدية المصريين لبيت الله الحرام. كانت لحظة موكب المحمل لحظة تاريخية، يُشارك فيها الكبار والصغار، ويلتف فيها الناس على الطرقات لوداع الكسوة، التي لم تكن مجرد نسيج، بل رمزًا للحب والتاريخ المشترك بين مصر والحجاز.
ورغم أن صناعة الكسوة باتت سعودية خالصة منذ عام 1962، فإن التاريخ لا ينسى أصابع المصريين التي خطّت بالذهب آيات الله، وعيونهم تدمع وهم يُسلّمون الثوب لبيت الله، وكأنهم يسلمون قطعة من قلوبهم.
عندما تركب الكسوة فجر يوم عرفة، يُرفع طرفها ثلاثة أمتار عن الأرض في ما يُعرف بـ"إحرام الكعبة"، لحمايتها من العبث، وللتعبير عن رمزيتها، فالكعبة تدخل أيضًا في حالة من الطهر، شأنها شأن الحجاج.