رئيس مجلس الإدارة
رضا سالم
رئيس التحرير
نصر نعيم

علاء عبد الفتاح.. كيف كشفت الجنسية البريطانية زيف سردية «سجين الرأي»؟

علاء عبدالفتاح
علاء عبدالفتاح

لم تعد قضية علاء عبد الفتاح مجرد ملف حقوقي يُستدعى عند الحاجة، ولا اسمًا يُرفع في بيانات التضامن دون مساءلة؛ فمع تطور الأحداث، وتغيّر السياقات السياسية، وتباين المواقف بين الداخل والخارج، بات من الضروري إعادة النظر في الرواية الكاملة، لا من زاوية الاتهام أو الدفاع، بل من زاوية تحليل الخطاب وتأثيره في المجال العام.

لسنوات، قدمت جهات ووسائل إعلام غربية علاء عبد الفتاح باعتباره «رمزًا للحرية» و«سجين رأي»، في صيغة أقرب إلى الحكم النهائي الذي لا يقبل المراجعة؛ غير أن هذا التوصيف، حين يُفصل عن مضمون الخطاب السياسي نفسه، يتحول إلى مظلة تحجب النقاش بدلًا من أن تفتحه.

والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم: متى تظل الكلمة رأيًا، ومتى تصبح أزمة تمس الدولة والمجتمع؟

من ناشط رقمي إلى فاعل سياسي مؤثر، ظهر علاء عبد الفتاح في لحظة تاريخية استثنائية، صعد فيها الفضاء الرقمي كمنصة بديلة للفعل السياسي، في تلك المرحلة، لم يكن مجرد فرد يعبّر عن رأي شخصي، بل أحد الأصوات المؤثرة التي امتلكت جمهورًا واسعًا وقدرة على التعبئة والتأثير في المزاج العام.

مع مرور الوقت، تطور الخطاب من نقد سياسات بعينها إلى مواجهة مفتوحة مع مؤسسات الدولة، وتقديم الصدام بوصفه خيارًا سياسيًا مشروعًا؛ هذا التحول لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل نقطة فاصلة في فهم طبيعة الدور الذي لعبه: هل نحن أمام صاحب رأي فردي، أم فاعل سياسي يسهم بخطابه في تشكيل اتجاهات عامة وسلوك جماعي؟

في التجارب الديمقراطية، يُنظر إلى الفاعل المؤثر باعتباره مسؤولًا عن أثر كلمته، لا مجرد ناقل رأي.

سجل مثير للجدل داخل السياق المصري

ارتبط اسم علاء عبد الفتاح بمحطات سياسية صدامية داخل مصر، وبتراكم مواقف أثارت جدلًا واسعًا حول طبيعة خطابه وحدود تأثيره؛ فبدل الاكتفاء بطرح بدائل إصلاحية واضحة، اتجه الخطاب في فترات متعددة إلى لغة تصعيدية حادة، قدّمت الصراع بوصفه ثنائية صفرية بين الدولة ومواطنيها، وأهملت كلفة الصدام على الاستقرار والسلم المجتمعي.

هذا السجل، بما يحمله من مواقف وتصريحات منشورة، ظل حاضرًا في النقاش العام، وأصبح جزءًا من تقييم الدور السياسي، لا من باب الإدانة، بل من باب المساءلة عن الأثر.

تغريدات ومنشورات تحت المجهر

بمراجعة مضمون عدد من كتابات وتصريحات علاء عبد الفتاح المتداولة عبر منصات التواصل، يلاحظ اعتماد لغة تعبئة عالية السقف، تُغذّي حالة الاستقطاب، وتُضعف فرص النقاش العقلاني.

السؤال الذي تطرحه الدول الحديثة ليس: هل يحق للفرد أن يتكلم؟ بل: ما أثر هذا الكلام حين يصدر عن فاعل مؤثر في مجتمع يعاني من هشاشة سياسية وأمنية؟

الحرية، في كل النظم القانونية، ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم الإضرار بالسلم العام أو الدفع نحو العنف أو الفوضى؛ ومن هنا، يصبح تحليل الخطاب واجبًا، لا مصادرةً للرأي.

«سجين رأي»… توصيف قابل للمراجعة

تحويل وصف «سجين رأي» إلى صفة مقدسة لا تُناقش كان أحد أبرز أزمات هذا الملف. فالمواثيق الدولية تضع تعريفًا محددًا لهذا الوصف، يقوم على المعاقبة بسبب الرأي المجرد، دون تحريض أو تهديد مباشر أو غير مباشر للنظام العام.

حين تتجاوز الكلمة التعبير إلى الدعوة المستمرة للصدام، أو تبرير الفوضى باعتبارها ثمنًا مقبولًا للتغيير، يصبح من المشروع قانونًا وأخلاقيًا مراجعة الوصف نفسه.

المسألة هنا ليست نزع صفة، بل رفض اختزال قضية مركبة في شعار مبسط.

مفارقة القاهرة ولندن: خطاب واحد بمعايير مختلفة

واحدة من أكثر النقاط دلالة في هذا الملف هي اختلاف الخطاب باختلاف المكان، ففي السياق البريطاني، التزم علاء عبد الفتاح بقواعد صارمة تحكم الخطاب العام، وجرى تقديم اعتذار علني عندما اعتُبرت بعض التصريحات مسيئة أو متجاوزة، وتراجع عن مبادئه المقدسة في حرية الرأي بعد تصدر اسمه في بريطانيا كشخصية متطرفة الفكر، يدعو لإبادة البيض في أوروبا والمطالبة بسحب الجنسية البريطانية منه، إذا خشي المناضل الرقمي على مصالحه الخاصة وحياة الرفاهية التي سيحصل عليها في عاصمة الضباب.

هذا المشهد يطرح سؤالًا مشروعًا: إذا كانت الكلمة تُراجع وتُحاسب في إطار قانوني غربي صارم، فلماذا يُطلب من مصر وحدها التعامل معها باعتبارها حرية مطلقة بلا تبعات؟.

القضية هنا ليست مقارنة سياسية، بل كشف ازدواجية المعايير في تعريف حدود التعبير ومسؤولية الفاعل، وربط الخطاب بسياق الجنسية والإطار القانوني الذي يفرض نفسه حيثما وُجد.

لماذا الاعتذار هناك ولم يحدث هنا؟

يثير الاعتذار في بريطانيا، في مقابل غياب خطاب مماثل تجاه الدولة المصرية، نقاشًا أوسع حول علاقة الخطاب بالقانون والمواطنة؛ فحين يرتبط التعبير بمخاطر قانونية مباشرة—كالمساءلة أو تأثيره على الوضع القانوني—يخضع الخطاب للمراجعة، أما حين يُقدَّم في سياق يُفترض فيه الاستثناء، تُرفع عنه القيود.

تغريدات عبد الفتاح السابقة في حق الدولة المصرية استوجبت خضوعه للقانون، إذ شملت المشاركة في أفعال تخريب بالقول والفعل والتحريض علنا على قتل الجنود المصريين وإهانة رموز الدولة.

هذا التناقض يعيد السؤال إلى جوهره: هل الحرية مبدأ واحد، أم تُعاد صياغته وفق المكان والمصلحة؟

الدفاع الحقوقي حين يتحول إلى مأزق

الدفاع عن حقوق الإنسان قيمة إنسانية أساسية، لكن تحويله إلى دفاع غير مشروط عن أفراد بعينهم، بغض النظر عن مضمون خطابهم وتأثيره، أوقع الخطاب الحقوقي في مأزق حقيقي.

فالدولة ليست كيانًا مجردًا، بل إطار جامع يحمي المجتمع نفسه، بما في ذلك من يرفعون شعارات الحرية؛ فتجاهل هذا البعد، وتصوير أي إجراء قانوني باعتباره قمعًا، أسهم في تعميق الفجوة بين الخطاب الحقوقي والرأي العام.

حين تطبق الدول معاييرها بلا شعارات

اللافت أن الجدل حول علاء عبد الفتاح لم يعد محصورًا في مصر، بل امتد إلى الداخل الغربي، حيث بدأت تُطرح الأسئلة نفسها حول حدود الخطاب المقبول، ودور الدولة في حماية نظامها العام.

حتى أكثر الديمقراطيات رسوخًا لا تتسامح مع خطاب يُنظر إليه باعتباره تهديدًا للاستقرار، مهما كانت اللافتة التي يُرفع تحتها، وهذا ما يعيد القضية إلى أصلها: ليست استثناءً مصريًا، بل قاعدة دولية.

قضية علاء عبد الفتاح كشفت أزمة أعمق من شخص أو اسم، كشفت أزمة خطاب بُني على التبسيط، وانهار عند أول اختبار حقيقي للمعايير ذاتها خارج السياق المصري.

سقوط أسطورة «سجين الرأي» لا يعني مصادرة الحرية، بل إعادة تعريفها بوصفها حقًا مقترنًا بالمسؤولية، لا تصريحًا دائمًا بالصدام.

فالحرية التي تتجاهل أثر الكلمة، تتحول من قيمة نبيلة إلى خطر على المجتمع نفسه.

تم نسخ الرابط