هل يجوز ترك الجمعة في البرد والمطر؟.. فتوى رسمية تحسم الجدل
في خضم موجات البرد القارس التي تشهدها البلاد خلال فصل الشتاء، ومع تكرار هطول الأمطار الغزيرة التي تحوّل الشوارع في بعض المناطق إلى برك من الطين والوحل، تلقّت دار الإفتاء المصرية سؤالًا ملحًّا يدور في أذهان الكثيرين: هل يجوز ترك صلاة الجمعة في المسجد بسبب الظروف الجوية القاسية؟.
فتوى رسمية صدرت عن مفتي الجمهورية الدكتور نظير محمد عياد، لتفتح الباب أمام نقاش فقهي واجتماعي حول الموازنة بين أداء الفريضة وحماية النفس من المشقة والضرر.
الاستفتاء الذي أشعل السؤال.. ظروف مناخية صعبة وحيرة بين الفريضة والعذر الشرعي
تبدأ القصة بسؤال وُجه إلى دار الإفتاء يقول صاحبه: في أيام الشتاء، حين يشتد البرد وتتساقط الأمطار بغزارة، وتمتلئ الطرق بالوحل والطين، هل يجوز التخلّف عن صلاة الجمعة تجنّبًا للمشقة؟
السؤال بدا عاديًا في ظاهره، لكنه يعكس معاناة كثيرين من سكان المناطق الشعبية والريفية، حيث تتحول الطرق غير الممهدة إلى مستنقعات، ويصبح الوصول إلى المسجد مشقة كبيرة قد تصل إلى الضرر.
الإجابة جاءت واضحة من الدكتور نظير عياد: نعم، يجوز ترك الجمعة إذا كان المطر شديدًا أو كان البرد قارسًا لا يُحتَمَل، وكانت المشقة ظاهرة تمنع الوصول إلى المسجد.
نص الفتوى.. مستند شرعي واضح وأحاديث تثبت الرخصة
أوضح مفتي الجمهورية في فتواه أن المطر الشديد والبرد غير المحتمل من الأعذار الشرعية التي أجاز الفقهاء معها التخلّف عن صلاة الجمعة والجماعة.
واستدل بحديث ابن عمر رضي الله عنهما حين أذّن في ليلة باردة ذات ريح وقال: "ألا صلّوا في الرحال"، مبينًا أن النبي ﷺ كان يأمر المؤذن في مثل هذه الليالي بأن ينادي الناس ليصلّوا في بيوتهم.
كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما موقفًا مشابهًا في يوم ممطر، حين طلب من المؤذن ألا يقول "حي على الصلاة"، بل يقول: "صلوا في بيوتكم"، موضحًا للناس أن الجمعة فرض، لكنه كره أن يرهقهم بالطين والدحض.
الأحاديث التي استشهدت بها الفتوى، والمروية في صحيحي البخاري ومسلم، تشكل سندًا قويًا يجعل الرخصة ثابتة بالنص لا بالاجتهاد وحده.
مكانة صلاة الجمعة.. واجبة لا تُترك إلا بعذر معتبر
رغم الرخصة، شدّدت الفتوى على أن صلاة الجمعة واجبة بنص القرآن والسنة، ولا يجوز تركها دون عذر شرعي.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾.
وجاءت الأحاديث لتؤكد أنها فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل مقيم صحيح، ولا يُعفى منها إلا المرأة أو الطفل أو العبد أو المريض.
وبذلك يتبين أن الأصل هو وجوبها، وأن تركها دون سبب مشروع يعدّ إثمًا، بينما يكون التخلّف عنها خلال المطر الغزير أو البرد القارس رخصة ورحمة وليست تقصيرًا.
لماذا اعتبر الفقهاء المطر والبرد الشديد من الأعذار الشرعية؟
تكشف المراجع الفقهية الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إجماعًا على اعتبار المطر الشديد والبرد المؤذي من الأعذار التي تبيح التخلف عن الجمعة والجماعة.
الإمام البخاري خصّص بابًا في صحيحه بعنوان: "الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر"، بينما أفرد مسلم بابًا مشابهًا حول جواز ترك الجماعة للمطر.
ويوضح الحافظ ابن رجب أن:
"أكثر أهل العلم على أن المطر والطين عذر يباح معه التخلف عن حضور الجمعة والجماعات، ليلًا ونهارًا".
الفقهاء انطلقوا من قاعدة كبرى "المشقة تجلب التيسير"، وهي قاعدة أصولية تعكس مقصدًا شرعيًا عميقًا وهو حماية الإنسان من الأذى والمشقة غير المعتادة.
كما أن الشريعة تراعي الطبيعة البشرية والظروف الاجتماعية، خاصة في البيئات التي قد تتحول الأمطار فيها إلى خطر حقيقي على كبار السن والمرضى وأصحاب الحاجات.
كيف يصلي من ترك الجمعة لعذر؟.. الإجماع يحسم الجدل
حددت الفتوى بوضوح ما يجب على من تخلّف عن صلاة الجمعة لعذر:
يصلي الظهر أربع ركعات بالإجماع.
فالجمعة لا تقضى ركعتين بعد خروج وقتها، بل تتحول إلى صلاة الظهر التي هي أصل الفريضة.
كيف يوازن المسلم بين أداء الفريضة والمحافظة على النفس؟
يفتح هذا السؤال بابًا واسعًا للنقاش الاجتماعي:
هل يتم استخدام الرخصة في حدودها الشرعية؟ أم قد تتسع لاستخدامها في غير محلها؟
الفتوى لم تشجع على ترك الجمعة بسهولة، لكنها أكدت قاعدة مهمة:
إذا كانت المشقة حقيقية، والرجل يخشى على نفسه من البرد أو الانزلاق أو المرض، فالرخصة مشروعة.
أما إذا كانت الظروف عادية ولم تصل إلى حد المشقة، فترك الجمعة لا يعد عذرًا، بل تقصير في فريضة عظيمة.
هل الفتوى مرتبطة بالمناخ الحالي فقط أم حكمٌ عام؟
يوضح فقهاء الشريعة أن هذا الحكم عام ودائم، لا يرتبط بزمان أو مكان.
فكلما تحقق نفس العذر مطر شديد، طين، برد غير محتمل جازت الرخصة.
لكن تحديد "شدة المطر" و"قوة البرد" يرجع للعرف ولما يراه الناس مشقة حقيقية، وليس مجرد تغير بسيط في الجو.