باقي علي افتتاح المتحف الكبير
  • يوم
  • ساعة
  • دقيقة
  • ثانية
رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

ضمير للبيع.. حين تصبح الأمانة المهنية ضحية الفساد والإهمال؟

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

في عصرٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتعدد فيه المغريات والمصالح الشخصية، تبقى الأمانة المهنية هي الميزان الذي يزن به الإنسان إيمانه وضميره فحين تتراجع القيم وتنتشر مظاهر الفساد الإداري، يصبح الحفاظ على الأمانة في العمل موقفًا دينيًا أصيلًا لا يعبّر فقط عن الأخلاق، بل عن عمق الإيمان وصدق العبودية لله تعالى.

الأمانة المهنية ليست شعارًا يُرفع في المناسبات، بل هي عبادة مستمرة يمارسها الموظف والعامل والطبيب والمعلم وكل من أُوكل إليه عملٌ أو مسؤولية وهي في جوهرها صورة من صور تطبيق الإسلام في الحياة العملية، ومظهر من مظاهر التقوى التي أمر الله بها عباده في كل موضع وزمان.


الأمانة في الإسلام مفهوم واسع، يشمل حفظ الدين، والعرض، والمال، والعمل، وكل ما يُوكل إلى الإنسان من مسؤوليات.
قال الله تعالى:

"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" (النساء: 58).

فالأمانة ليست قاصرة على المال، بل تشمل أداء الواجب بإخلاص ودقة، دون تهاون أو غش أو خيانة.
وفي الحديث الشريف قال النبي ﷺ:

"لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (رواه أحمد).

وهذا الحديث يربط الأمانة بالإيمان، فكل من ضيّع أمانته فقد انتقص من إيمانه، وكل من حافظ عليها كان مؤمنًا صادقًا في عمله ونيته.

العمل عبادة ومسؤولية شرعية

ينظر الإسلام إلى العمل الشريف باعتباره عبادة، شريطة أن يُؤدّى بإتقان وإخلاص يقول النبي ﷺ:

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" (رواه البيهقي).

وهذا الحديث يضع معيارًا واضحًا للأمانة المهنية فالإتقان في العمل ليس مجرد التزام قانوني، بل هو واجب ديني يُثاب عليه الإنسان إذا قصد به وجه الله.
وعليه، فإن الموظف الذي يؤدي عمله بإخلاص، ويحترم وقت عمله، ويتقن مهامه دون تهاون، هو في عبادة يومية مستمرة أما من يتقاعس، أو يضيع وقت العمل، أو يستغل منصبه لمصالح شخصية، فهو في موضع الإثم والخيانة، لأن الله قال في محكم التنزيل:

"وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" (المؤمنون: 8).

الفساد الإداري.. وجه آخر للخيانة

الفساد الإداري هو الوجه العملي لضياع الأمانة، حين تتحول الوظائف إلى مصالح خاصة، وتضيع الحقوق بسبب المحاباة والرشوة والإهمال.
وقد حذر الإسلام من هذا النوع من الفساد تحذيرًا شديدًا

فكل موظف يستغل وظيفته لتحقيق منفعة شخصية أو يسيء استخدام سلطته، فإنه يغُلّ ما استؤمن عليه، وسيحاسبه الله عليه يوم القيامة.
والغلول  كما يفسره العلماء  لا يقتصر على الأموال العامة، بل يشمل الوقت والجهد والثقة، فإضاعة وقت العمل أو الإهمال في أداء الواجب يُعدّ نوعًا من الخيانة للأمانة التي أوكلت إلى الموظف.

الأمانة مسؤولية أمام الله لا أمام البشر

يُدرك المسلم أن الوظيفة تكليفٌ لا تشريف، وأن الأمانة فيها عبء ثقيل سيُسأل عنه أمام الله قبل أن يُسأل أمام البشر، كما قال النبي ﷺ:

"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته" (متفق عليه).

فكل موظف راعٍ في موقعه، وكل مسؤول مؤتمن على ما تحت يده، سواء كان في مؤسسة صغيرة أو في جهاز إداري كبير.
وقد قال تعالى محذرًا من التهاون في هذه المسؤولية:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (الأنفال: 27).


فمن خان الأمانة وهو يعلم، فقد خان دينه قبل أن يخون عمله، وأضاع نفسه قبل أن يضرّ مؤسسته.

حين تنتشر الأمانة في بيئة العمل، تزدهر المؤسسات وتعلو الأمم، لأن أساس التقدم ليس كثرة القوانين بل قوة الضمير.
والتاريخ الإسلامي حافل بأمثلة حضارية جسّدت قيمة الأمانة في كل مجال، من إدارة الدولة إلى الحرف البسيطة، وكان الخلفاء الراشدون يتفقدون أحوال العمال والولاة، ويحاسبونهم على كل تقصير.
وقد قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبارته الشهيرة:

"لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها لمَ لمْ تُمهّد لها الطريق يا عمر؟"

وهذا دليل على أن الأمانة ليست مجرد واجب وظيفي، بل إحساس دائم بالمسؤولية أمام الله والناس.


ضياع الأمانة.. علامة من علامات الساعة

من خطورة التهاون في الأمانة أن النبي ﷺ جعل ضياعها من علامات الساعة، فقال:

"إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة" (رواه البخاري).


ولما سُئل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال:

إذا وُسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.

وهذا الحديث يضع إصبعه على جوهر الأزمة المعاصرة، فحين تُمنح المناصب دون كفاءة أو أمانة، ينتشر الفساد وتُهدر الحقوق، وتتعطل مصالح الناس، وتتحول المؤسسات إلى أدوات للمحاباة لا للعدل

الأمانة المهنية ليست مجرد التزام خارجي، بل هي انعكاس لحالة القلب الداخلي، لأن المؤمن الصادق يعلم أن الله يراه حيث لا يراه أحد.
قال تعالى:

"يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور" (غافر: 19).

ومن هنا، فإن الموظف الذي يراقب الله في عمله، لن يحتاج إلى رقيب بشري أو كاميرات مراقبة، لأن ضميره هو الحارس الحقيقي.
ولذلك كان السلف الصالح يقولون: "اعمل لله عمل من يراك، واستحِ من الله حياء من لا تراه."

نحو ثقافة مهنية قائمة على التقوى

إن إصلاح بيئة العمل لا يكون فقط بالتشريعات والعقوبات، بل بتربية النفوس على التقوى والرقابة الذاتية.
فالأنظمة مهما بلغت صرامتها، لا تمنع الفساد إذا غاب الضمير، بينما الموظف المتقي لا يحتاج إلى تهديد ليحسن عمله، لأنه يعلم أن عمله عبادة سيُسأل عنها يوم الحساب.
قال تعالى:

"فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره" (الزلزلة: 7-8).

 

 

 

 

 

تم نسخ الرابط