باقي علي افتتاح المتحف الكبير
  • يوم
  • ساعة
  • دقيقة
  • ثانية
رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

ذكرى ميلاد الإمام طنطاوي.. شيخ الأزهر الذي حارب التطرف بسلاح الاعتدال

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

في ذكرى ميلاده التي توافق الثامن والعشرين من أكتوبر، تعود ذاكرة الأزهر الشريف والعالم الإسلامي إلى أحد أبرز علمائه في القرن العشرين، الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل، الذي مثّل جسرًا بين الأصالة والتجديد، وجسّد في مسيرته فكرة الإسلام الوسطي الذي يواجه التشدد بالحكمة والعلم.

رحل الشيخ عن عالمنا في مارس عام 2010، لكن مسيرته ما زالت تتردد في أروقة الأزهر، حيث جمع بين الفقه والتفسير، وبين التعليم والدعوة، وبين الفكر والاجتهاد، ليصبح نموذجًا لعالم الدين الذي يفكر بعقلٍ مستنير وقلبٍ مؤمن.

البدايات.. من قرية “سليم الشرقية” إلى حفظ القرآن

وُلد الشيخ محمد سيد طنطاوي في قرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج عام 1928، ونشأ في أسرة بسيطة الحال، فكان مثالًا للصبر والكفاح ماتت والدته بعد ولادته بأشهر قليلة، فتولت زوجة أبيه تربيته بحنانٍ وعطفٍ لا يقل عن الأم الحقيقية، وهو ما ترك في نفسه أثرًا عميقًا ظل يذكره دائمًا قائلاً:

“لم أرَ أمي، ولكن الله عوضني بزوجة والدي التي عاملتني كما تعامل أبناءها، فتعلمت منها العدل والرحمة.”

تلقى الشيخ تعليمه الأولي في الكتّاب، حيث حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ثم انتقل إلى الإسكندرية ليلتحق بمعهدها الديني، وهناك بزغ نبوغه في اللغة والفقه والتفسير. لم يكن مجرد طالب متفوق، بل خطيبًا ناشئًا عشق المنبر والدعوة منذ نعومة أظافره.

الخطبة الأولى.. شرارة الدعوة

يروي الشيخ الراحل تلك اللحظة التي صعد فيها المنبر لأول مرة وهو في المرحلة الثانوية:

“توفي إمام المسجد في حي الحضرة، فطلب مني الأهالي أن أخطب الجمعة، وكنت في أولى ثانوي كنت أرتجف من المهابة، لكني استحضرت نية الدعوة إلى الله، ومنذ ذلك اليوم لم أفارق المنبر.”

تلك الخطبة الأولى فتحت أمامه طريقًا طويلًا من العلم والعمل الدعوي، فكان يرى أن المنبر ليس مجرد مكانٍ للكلام، بل مسؤولية كبرى لتنوير العقول وإصلاح القلوب.

الطريق إلى العالمية.. من طالبٍ إلى عميد وأستاذ تفسير

بعد أن نال درجة الليسانس من كلية أصول الدين بالأزهر عام 1958، عُيّن إمامًا وخطيبًا بوزارة الأوقاف عام 1960، ثم حصل على الدكتوراه في الحديث والتفسير عام 1966 بتقدير ممتاز، فبدأ مشواره الأكاديمي في جامعة الأزهر.
تدرج في المناصب حتى أصبح عميدًا لكلية أصول الدين بأسيوط عام 1976، ثم انتدب للتدريس في ليبيا أربع سنوات، وبعدها انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1980 ليشغل منصب رئيس قسم التفسير في كلية الدراسات العليا.

هناك في مدينة الرسول ﷺ، تأثر طنطاوي بجلال المكان وقدسيته، فزاد تعلقه بالقرآن الكريم، وألّف العديد من البحوث في علوم التفسير والعقيدة، مما جعله أحد أبرز المتخصصين في هذا المجال.

من مدرّس إلى مفتي الديار المصرية

في عام 1986، كان التحول المفاجئ في حياة الشيخ تلقى اتصالًا من الشيخ جاد الحق علي جاد الحق يطلب منه الحضور إلى الأزهر، ليخبره بخلو منصب مفتي الديار المصرية، وعزمه على ترشيحه.
أبدى طنطاوي في البداية تحفظه قائلًا:

أنا أستاذ تفسير، ولم أتعمق في الفقه كما ينبغي، فكيف أكون مفتيًا؟

لكن الشيخ جاد الحق ردّ عليه بحسم:

“الإفتاء ليس حفظ المسائل فقط، بل هو فقه الواقع والاجتهاد بعلمٍ وتقوى والأزهر يراك أهلًا لهذه الأمانة.”

قبل الشيخ المنصب بعد ترددٍ، ليبدأ فترة من أكثر مراحل حياته اجتهادًا وإنتاجًا علميًا وقدّم خلال توليه الإفتاء فتاوى متزنة تجمع بين النص الشرعي ومقاصد الشريعة، رافضًا الجمود والانغلاق.


شيخ الأزهر.. قمة المسؤولية وروح التجديد

في عام 1996، صدر القرار الجمهوري بتعيينه شيخًا للأزهر الشريف، ليخلف الشيخ جاد الحق، وليحمل أمانة القيادة الروحية للمسلمين في مصر والعالم.
كانت فترة مشيخته (1996 – 2010) من أكثر المراحل حساسية في تاريخ الأزهر، إذ واجه خلالها تصاعد الفكر المتشدد، وظهور جماعات التكفير والعنف باسم الدين.
ورغم ذلك، حافظ على اتزانه وهدوئه، ودافع عن صورة الإسلام الحقيقية، فقال في أحد لقاءاته:

“الإسلام لا يعرف العنف، ولا يرضى بالدماء، وإنما هو دين الرحمة والعقل.”

تبنّى طنطاوي مشروعًا واسعًا لتجديد الفكر الديني، فأطلق مبادرات لتحديث مناهج الأزهر، وتوسيع دائرة الحوار مع الكنائس والديانات الأخرى، وأكد أن الحوار بين الأديان هو الطريق لفهم مشترك يعزز السلام العالمي.

طنطاوي والمرأة.. قضية شجاعة وسط العواصف

كان موقفه من المرأة أحد أبرز محاور الجدل حوله، فقد دافع عنها بشجاعة ضد محاولات تهميشها، مؤكدًا أن الإسلام أعطاها حقوقها منذ أربعة عشر قرنًا.
أفتى بجواز عمل المرأة وتوليها المناصب القيادية، وحقها في التعليم والميراث العادل، مما أثار انتقادات شديدة من المتشددين الذين اتهموه بمخالفة السلف. لكنه رد عليهم بوضوح قائلاً:

“من أراد أن يفهم الإسلام فليقرأ القرآن قبل أن يسمع من الناس.”

وقد كان يرى أن الظلم الواقع على المرأة سببه العادات والتقاليد، لا الدين، وأن الإسلام بريء من أي تمييز ظالم.

إصلاح الفكر ومحاربة الغلو

آمن طنطاوي بأن “الجمود الديني” أخطر من الكفر ذاته، لأنه يعطل عقول الناس ويمنعهم من الفهم الصحيح للقرآن والسنة.
لذلك، دعا إلى الاجتهاد المنضبط، ورفض استيراد الفتاوى الجاهزة من عصورٍ سابقة لا تناسب واقع الأمة الحديث، وكان يقول دائمًا:

“الشريعة جاءت لمصلحة الإنسان، وكل حكم يخالف المصلحة العامة فهو ضد روح الشريعة.”

هذه الرؤية الإصلاحية تجلت في مؤلفاته، وعلى رأسها كتاب "الفقه الميسر" الذي قدّم فيه الفقه بأسلوبٍ مبسط بعيد عن التعقيد، وكتابه "التفسير الوسيط للقرآن الكريم" الذي اعتبره كثيرون من أعظم مؤلفات التفسير في العصر الحديث.

مواقفه العالمية.. صوت الأزهر في المحافل الدولية

لم يكن طنطاوي عالمًا منغلقًا على حدود وطنه، بل كان صوتًا للأزهر في المؤتمرات العالمية، مدافعًا عن صورة الإسلام في وجه الحملات الغربية التي حاولت ربطه بالعنف.
شارك في مؤتمرات الحوار بين الأديان بدعوة من الملك عبد الله بن عبد العزيز، مؤكدًا أن “الاختلاف لا يعني العداء، وأن الحوار هو لغة الأنبياء.”

نال احترامًا واسعًا من القادة والعلماء، حتى إن كثيرين وصفوه بأنه "عالم الأزهر العالمي"، لما مثّله من اعتدال وانفتاح على العالم.


وفاته في الرياض.. ودفنه في البقيع

في العاشر من مارس عام 2010، وبينما كان يستعد للعودة من الرياض بعد حضوره مؤتمرًا لمنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، أصيب بأزمة قلبية مفاجئة في مطار الملك خالد الدولي، ففاضت روحه إلى بارئها عن عمرٍ ناهز 81 عامًا.
نُقلت جثمانه إلى المدينة المنورة، حيث أُقيمت عليه صلاة الجنازة في المسجد النبوي الشريف، ودُفن في مقبرة البقيع إلى جوار الصحابة.
أصدرت مؤسسات دينية كبرى بيانات نعيه، بينها نقابة الأشراف والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مؤكدين أن الأمة فقدت أحد أعمدتها الفكرية والدعوية.

إرث لا يُنسى.. واستمرار الرسالة

بعد وفاته، أعادت جامعة سوهاج عام 2019 إطلاق جائزة “التسامح والحوار الديني” باسمه، تخليدًا لمسيرته المضيئة. وقال رئيس الجامعة آنذاك الدكتور أحمد عزيز:

“هذه الجائزة أقل ما يمكن تقديمه لعالمٍ حمل لواء الاعتدال ودافع عن التسامح بين الأديان.”

رحل الشيخ محمد سيد طنطاوي جسدًا، لكن فكره بقي حاضرًا في كل سطرٍ من كتبه، وفي كل طالب علمٍ تتلمذ على يديه، وفي كل منبرٍ يرفع صوت الوسطية ضد التطرف.
كان يؤمن بأن الإسلام رسالة رحمة، وأن الأزهر هو حارسها الأمين، وأن العالم لا يصلح إلا بالفكر المضيء والعقل الراشد.

تم نسخ الرابط