الرشوة باسم الهدية.. هل تحوّل الفساد إلى ثقافة اجتماعية مقبولة؟
في زمنٍ يتشابك فيه النفوذ بالمصالح، وتتعقد فيه المعاملات بين الناس، تبرز الرشوة كأحد أخطر الأمراض الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي تنخر في جسد الأمة بصمتٍ قاتل.
هي ليست مجرد ورقة نقدية تُمرَّر خلسة تحت الطاولة، بل هي فكرة منحرفة، وثقافة فاسدة، ووسيلة ملتوية تقلب الحق باطلًا والباطل حقًّا.
في مؤسساتنا، في دوائرنا الحكومية، في صفقاتنا التجارية، وأحيانًا في حياتنا اليومية؛ تتسلّل الرشوة تحت مسمياتٍ شتى: “هدية”، “خدمة”، “تسهيل”، “شكر”، لكنها تبقى في جوهرها مالًا حرامًا يُغضب الله ويفسد العدل.
دار الإفتاء المصرية أطلقت حملات توعية لتذكير الناس بحقيقة هذا الداء القاتل الذي يُدمّر القيم، مؤكدة أن الرشوة محرمة شرعًا تحريمًا قاطعًا، وأن كل من اشترك فيها آثم، سواء كان الآخذ أو الدافع أو الوسيط.
لكن.. ما الرشوة في ميزان الشرع؟ ولماذا حذّر الإسلام منها بهذه الشدة؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يتطهر من هذا الوباء الأخلاقي الذي يهدد استقراره وعدله؟
مفهوم الرشوة في الفقه الإسلامي
عرّف العلماء الرشوة بأنها: ما يُعطى للتوصل إلى باطلٍ أو لإبطال حقٍّ.
فهي ليست هدية بريئة، ولا مكافأة مستحقة، بل هي أداة فاسدة يستخدمها ضعاف النفوس لتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب الآخرين.
يقول الله تعالى في محكم التنزيل:
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 188).
هذه الآية تُعدّ الأساس القرآني في تحريم الرشوة، لأنها تُظهر أن من يدفع المال ليغيّر حكمًا أو ليستحوذ على حق غيره، قد جمع بين الإثم والظلم.
وفي الحديث الصحيح، قال النبي ﷺ:
«لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» (رواه الترمذي).
فاللعن هنا لا يعني مجرد التحريم، بل الطرد من رحمة الله، وهو أقسى أنواع العقوبات المعنوية.
ويضيف العلماء أن الوسيط بين الراشي والمرتشي ويسمّى "الرائش" ملعونٌ معهم، لأن وجوده ضرورة لإتمام الجريمة، فيُصبح شريكًا في الإثم والفساد.
الرشوة في الواقع المصري.. من المال إلى الهدايا والمجاملات
في الواقع العملي، لم تعد الرشوة تُقدَّم على هيئة مالٍ مباشر فقط، بل تطورت لتأخذ صورًا أكثر خفاءً وخطورة.
فقد تُقدَّم في شكل "هدية" باهظة لمسؤولٍ بعد إنجاز معاملة، أو "دعوة فاخرة" في مقابل تمرير صفقة، أو "وساطة" لتعيين شخص في وظيفة، أو حتى "مجاملة" في هيئة تخفيضٍ أو تسهيلٍ لا يستحقه صاحبه.
وفي كل هذه الصور، يُخفي الفساد وجهه خلف ستار من المجاملات الاجتماعية أو الأعراف الوظيفية.
لكن دار الإفتاء المصرية أكدت أن كل ما يُعطى بغرض إحقاق باطل أو إبطال حقٍّ هو من الرشوة المحرمة، حتى لو غُلّف بمظاهر اللباقة.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف:
من أخطر ما نواجهه اليوم هو تزيين الحرام وتلبيسه لباس الحلال فالبعض يظن أن الهدية بعد الخدمة لا تُعد رشوة، بينما هي في حقيقتها فسادٌ ماليٌّ صريح إذا ارتبطت بمصلحةٍ أو منفعة.
بين الراشي والمرتشي.. من يحمل الوزر الأكبر؟
سؤالٌ يتكرر كثيرًا: هل يأثم من يدفع الرشوة كما يأثم من يأخذها؟
الجواب في الفقه الإسلامي دقيق وواضح:
إن كانت الرشوة تُدفع للحصول على باطلٍ أو لظلم أحدٍ، فالإثم على الطرفين معًا.
أما إذا أُجبر الإنسان على دفع مالٍ ليستوفي حقه أو يدفع ظلمًا، فالإثم يقع على الآخذ وحده.
وقد قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:
من أعطى ليدفع عن نفسه ظلمًا، فالإثم على الآخذ دون المعطي.
ومع ذلك، شدد العلماء على أن هذا الحكم لا يُستخدم لتبرير الفساد أو التساهل فيه، لأن الأصل هو مقاومة النظام الفاسد، لا التعايش معه.
فالإسلام لا يقرّ إلا بالعدل، ولا يُجيز الفساد ولو في أضيق الحدود.
الرشوة جريمة شرعية وقانونية
الرشوة ليست ذنبًا دينيًا فحسب، بل هي جريمة قانونية يعاقب عليها القانون المصري بالسجن والغرامة.
فوفقًا لقانون العقوبات المصري، تُعتبر الرشوة من جرائم المال العام التي تمس نزاهة الوظيفة العامة وثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
وتصل العقوبة إلى السجن المشدد لمدة قد تتجاوز عشر سنوات، مع مصادرة الأموال الناتجة عن الرشوة.
ويُفرّق القانون بين الراشي والمرتشي والوسيط، إلا أنه يجرّم الجميع فالجريمة لا تكتمل إلا بتواطؤ الأطراف الثلاثة، تمامًا كما نصّت الشريعة الإسلامية على اشتراكهم في الإثم.
ويقول الفقهاء إن تحريم الرشوة في الإسلام لا يهدف فقط إلى حماية المال، بل إلى حماية العدالة نفسها، لأن الرشوة تفتح أبواب الظلم وتغلق أبواب الحق.
الأثر الأخلاقي والاجتماعي للرشوة عندما ينهار الضمير
تبدأ الرشوة بفعلٍ صغيرٍ في الظلام، لكنها سرعان ما تتحول إلى منظومة فسادٍ متكاملة، تلتهم القيم وتُدمّر المجتمعات.
فالموظف الذي يقبل رشوة اليوم لتسهيل معاملة، قد يقبل غدًا رشوةً أكبر لتمرير جريمة، حتى يُصبح المال هو المعبود الجديد.
وللرشوة آثار مدمرة على كل المستويات:
1. أخلاقيًا: تُميت الضمير، وتُطفئ نور الأمانة في القلب.
2. اجتماعيًا: تُشيع الظلم، وتُزرع الكراهية بين الناس حين يرى المستحق حقوقه تُمنح لغيره.
3. اقتصاديًا: تُعطّل الإنتاج وتُضعف الكفاءة، لأن الوظائف تُمنح بالمال لا بالكفاءة.
4. دينيًا: تُوجب اللعنة والحرمان من بركة الرزق، كما قال النبي ﷺ:
«كلُّ جسدٍ نبت من سُحتٍ فالنار أولى به» (رواه الطبراني).
وتشير دراسات اجتماعية حديثة إلى أن تفشي الرشوة يؤدي إلى تراجع التنمية الاقتصادية بنسبة تتجاوز 20% في بعض الدول النامية، لأنها تقتل روح المنافسة وتزيد من التفاوت الطبقي.
الفقه الإسلامي يفرّق بين “الهدية” و“الرشوة”
قد يختلط الأمر على البعض بين الهدية المشروعة والرشوة المحرّمة.
الهدية مشروعة إذا كانت خالصة النية، لا ترتبط بعملٍ أو مصلحةٍ أو مكسبٍ غير مستحق.
أما إذا كانت الهدية مقابل خدمةٍ أو تسهيلٍ أو مجاملةٍ في الوظيفة العامة، فهي رشوة مغلّفة.
روى البخاري أن النبي ﷺ قال في حديث أبي حميد الساعدي:
«هَدِيَّةُ العُمَّالِ غُلُولٌ» أي خيانة.
أي أن كل هدية تُعطى بسبب المنصب أو الوظيفة تُعد سرقةً معنويةً للأمانة العامة.
لذلك، فإن الموظف الذي يقبل هديةً من أحد المراجعين أو المتعاملين، حتى لو كانت "رمزية"، يدخل دائرة الشبهة والحرام.
كيف نحاصر الرشوة؟
محاربة الرشوة ليست مسؤولية القانون وحده، بل هي واجب شرعي ومجتمعي.
تبدأ المقاومة من الضمير الفردي، حين يرفض الإنسان المشاركة في أي معاملة مشبوهة مهما كان المكسب، امتثالًا لقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
كما يجب أن تقوم المؤسسات التربوية والإعلامية والدينية بدورها في غرس قيم الأمانة والنزاهة منذ الصغر.
ومن الواجب أيضًا تفعيل الرقابة الداخلية في المؤسسات، وتشجيع ثقافة التبليغ عن الفساد دون خوف، مع حماية الشهود والمبلغين.
أما على المستوى الشرعي، فإن العقوبة الأخروية للراشي والمرتشي أشد من العقوبة الدنيوية، لأن كليهما شارك في هدم ركنٍ من أركان العدالة التي يقوم عليها المجتمع.
يقول الله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ (الأنفال: 58).