الأزهر في مواجهة الاستعمار.. منبر الجهاد الوطني وصوت الأمة في معارك التحرر

في كل مرحلة من مراحل التاريخ المصري الحديث، ظل الأزهر الشريف أكثر من مجرد مؤسسة دينية أو مركزٍ للعلم والفتوى؛ بل كان ضمير الأمة وميزان وعيها، وسيفها في وجه الظلم والاحتلال.
من أروقته خرجت صيحات الحرية الأولى، ومن منابره اشتعلت المقاومة في القلوب والعقول لم يكن الأزهر متفرجًا على أحداث الاستعمار التي عصفت بمصر والمنطقة، بل كان شريكًا فاعلًا في صناعة الوعي الوطني وصياغة خطاب المقاومة، مستندًا إلى شرعية شرعيةٍ راسخةٍ، تجمع بين الدين والواجب الوطني، وتجعل من الدفاع عن الأرض والعرض عبادةً وجهادًا في سبيل الله.
نتناول كيف تحوّل الأزهر الشريف عبر قرنين من الزمن إلى منبرٍ للجهاد الوطني، ومصدر شرعيةٍ للمقاومة، بدءًا من تصديه للحملة الفرنسية، مرورًا بثورة 1919، ووصولًا إلى مواقفه المشرّفة في مواجهة العدوان الثلاثي وحركات التحرر في القرن العشرين، مستندًا إلى أدلة شرعيةٍ وفقهيةٍ تؤكد أن مقاومة الاستعمار ليست عملاً سياسيًا فحسب، بل فريضة شرعية تمليها مقاصد الإسلام الكبرى.
لم يكن الأزهر مجرد مؤسسة تُعنى بالعلم الشرعي، بل كان منبرًا حيًّا للوعي الجمعي، ورافعةً فكرية واجتماعية للمجتمع المصري فقد جمع بين المنبر، والفتوى، والتعليم كأذرعٍ ثلاثٍ تحرك وجدان الناس وتوجّه سلوكهم.
المنبر والخطبة.. صوت المقاومة في وجه الغزو
كانت خطب الجمعة في جامع الأزهر بمثابة نشرات تعبئة وطنية، تبث الوعي، وتستنفر الناس للجهاد والمقاومة في زمن الحملة الفرنسية، لم تخلُ خطبةٌ من تنديدٍ بالعدوان، ودعوةٍ إلى الثبات والدفاع عن الدين والوطن. وعندما احتل الإنجليز مصر لاحقًا، ظل المنبر الأزهرِي صوتًا يحرض على مقاومة المحتل وفضح استبداده الخطبة هنا لم تكن وعظًا فقط، بل أداة تعبئة جماهيرية تُعيد تشكيل الوعي الوطني وتربط الدفاع عن الوطن بالإيمان بالله وشرعه.
الفتوى.. تحويل الوطنية إلى واجب ديني
الأزهر استخدم سلاح الفتوى بذكاءٍ وحكمةٍ ليمنح المقاومة شرعيةً فقهية، فتصبح مقاومة الاحتلال واجبًا شرعيًا لا خيارًا سياسيًا كانت بيانات هيئة كبار العلماء وفتاوى مشايخ الأزهر تعلن بوضوح أن الجهاد ضد المعتدي فرض عينٍ إذا داهم الأعداء ديار المسلمين، مستندة إلى قوله تعالى:
"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" (البقرة: 190).
كما استشهد العلماء بحديث النبي ﷺ:
"من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد" (رواه الترمذي).
وبهذا الفهم، تحوّل النضال ضد الاستعمار إلى فريضةٍ مقدسةٍ تُرضي الله قبل أن تُرضي الوطن.
المؤسسة التعليمية.. إعداد أجيال تقود التحرر
في قاعات الأزهر وأروقته، تربّت أجيال من العلماء والطلبة الذين جمعوا بين العلم والجهاد، فكانوا دعاةً في النهار، ومناضلين في الليل من بينهم من شارك في ثورة 1919، ومنهم من كتب المقالات والخطب التي تشعل الحماسة في القلوب أسهم التعليم الأزهري في بناء فكرٍ وطنيٍ إسلاميٍ يرى أن الدفاع عن الوطن هو دفاعٌ عن الدين ذاته، وأن المستعمر لا يستهدف الأرض فقط، بل العقيدة والهوية.
من الحملة الفرنسية إلى ثورة 1919.. صفحات من النضال الأزهرِي
حين وطئت جيوش نابليون أرض مصر عام 1798، وجد الفرنسيون أن خصمهم الأكبر ليس الجيوش الضعيفة، بل الأزهر الشريف وعلماؤه الذين حرّكوا الناس للجهاد تصدى الشيخ عبد الله الشرقاوي ورفاقه للغزاة، فكانت ثورة القاهرة الأولى والثانية تنطلق من مآذن الأزهر وميادينه. لم يكن دور الأزهر تنظيميًا فقط، بل روحيًا وأخلاقيًا، إذ ربط بين رفض الاحتلال ورفض الإذلال، فصار الدفاع عن الأرض دفاعًا عن كرامة الإسلام.
الأزهر في قلب ثورة 1919
مع اندلاع ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني، كان الأزهر حاضرًا بقوة خرج طلابه في مظاهرات حاشدة، واعتلى علماؤه المنابر للدعوة إلى الوحدة الوطنية، حتى غدت صورة الشيخ الأزهري إلى جوار القس المسيحي رمزًا خالدًا لتلاحم المصريين. تحوّل الأزهر في تلك الفترة إلى بيت الأمة، يحتضن الثوار وينشر بيانات العصيان، ويرفع شعار الاستقلال الكامل لمصر عن الهيمنة البريطانية.
القرن العشرون.. دعم المقاومة ضد العدوان
مع تصاعد العدوانات الخارجية على الأمة الإسلامية، من فلسطين إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لم يتخلّ الأزهر عن دوره في تلك السنوات الصعبة، وقف شيوخ الأزهر يعلنون دعمهم للشعب والمقاومة، مؤكدين أن "الدفاع عن الوطن فريضة شرعية لا يجوز التخاذل عنها" وقد صدرت فتاوى صريحة تعتبر مقاومة العدوان على قناة السويس واجبًا دينيًا على كل مصري ومسلم.
استند علماء الأزهر إلى عددٍ من النصوص القرآنية التي جعلت من الدفاع عن النفس والأرض فريضة شرعية، منها قوله تعالى:
"أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير" (الحج: 39).
كما استشهدوا بقول الله تعالى:
"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان" (النساء: 75).
هذه الآيات كانت الأساس الشرعي لفتاوى الأزهر التي تبيّن أن مقاومة الاستعمار ليست عدوانًا، بل ردًّا على الظلم وإحياءً لحق الأمة في الحياة الكريمة.
فقه الجهاد الدفاعي في التراث الإسلامي
بيّن فقهاء الأزهر أن الجهاد نوعان: ابتدائي ودفاعي، وأن الثاني فرض عينٍ عند دخول العدو أرض المسلمين وقد نصّ الإمام النووي وابن تيمية وغيرهما على أن كل من يهاجم ديار الإسلام يجب على أهلها دفعه، رجالاً ونساءً، كلٌّ بقدر استطاعته وتبنى الأزهر هذا الفهم ليجعل من مقاومة المستعمر تطبيقًا عمليًا لهذه القاعدة الفقهية.
المصلحة العامة ومقاصد الشريعة
اعتمد الأزهر في موقفه أيضًا على قاعدة "المصلحة المرسلة"، معتبرًا أن الحفاظ على الوطن جزءٌ من مقاصد الشريعة الخمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال فالوطن الذي تُغتصب أرضه يُهدَّد دينه، والمجتمع الذي يخضع للاستعمار يُنزع عنه استقلاله وهويته ومن هنا كانت مقاومة الاحتلال واجبًا دينيًا لحماية مقاصد الشريعة ذاتها.
تحديات داخلية: بين الدعوة والسياسة
لم تخلُ علاقة الأزهر بالحركات الوطنية من جدلٍ داخلي، إذ تساءل البعض: هل يجب أن يبقى الأزهر منارةً علمية روحية بعيدة عن السياسة؟ أم عليه أن يكون في قلب المعركة دفاعًا عن الأمة؟
كانت الإجابة تأتي دائمًا من نبض الشارع والعلماء الأحرار: عندما يُهدَّد الوطن، يصبح الصمت خيانة، والدعوة إلى الحياد تواطؤًا ومع ذلك، ظل الأزهر حريصًا على ألا يفقد استقلاله العلمي، فوازن بين الخطاب الشرعي والخطاب الوطني، جامعًا بين النص والمصلحة، بين الروح والسياسة.
لا تزال صورة الأزهر محفورة في الذاكرة الوطنية كرمزٍ للمقاومة والشرف فقد أسهم في ترسيخ فكرة أن الوطنية جزءٌ من العقيدة، وأن الدفاع عن الأرض عبادة في كتب التاريخ والمناهج الدراسية، تُروى بطولات علماء الأزهر وطلابه، وفي الخطب والمقالات الحديثة يُستدعى دوره كلما تعرّض الوطن لخطر، لتتجدد الرسالة القديمة: الأزهر ليس مؤسسة تقليدية، بل نبض الأمة وسراجها في زمن الظلمة.