جامع السلطان حسن.. أيقونة المعمار الإسلامي وروح القاهرة الخاشعة

من ميدان القلعة حتى حي السيدة زينب، تقف المساجد شاهدةً على أن الإيمان لا يُكتب بالحبر وحده، بل يُنقش في الحجر.
وهنا، بين صرح جامع السلطان حسن المهيب، وتحفة جامع أحمد بن طولون الزاهدة، نقرأ فصلين خالدين من فصول الحضارة الإسلامية في مصر، حيث تلتقي المهابة بالفن، والبساطة بالروح، والعقيدة بالعمارة.
يقول الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36].
وفي هذه البيوت المباركة، ارتفع الذكر قرونًا طويلة، ليظل صوت الأذان فيها شاهدًا على عظمة الله، وخلود الفن الإسلامي في مصر أرض الكنانة.
في ميدان القلعة، حيث تتعانق السماء مع المآذن، يقف جامع السلطان حسن شامخًا كأنه يهمس في أذن الزمن: “هنا سجد الملوك وخشع العلماء”.
أمر ببنائه السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون سنة 757هـ (1356م)، وجعل منه مدرسةً كبرى لتدريس المذاهب الأربعة، إلى جانب كونه مسجدًا جامعًا تقام فيه الصلوات الجامعة والخطب الدينية.
يبلغ ارتفاع مدخله الضخم أكثر من 38 مترًا، وهو أحد أضخم وأجمل النماذج المعمارية في العصر المملوكي، حتى قال المؤرخ المقريزي: “لو لم يبنِ المماليك إلا هذا المسجد لكفاهم فخرًا.”
ولم تكن عظمة هذا المسجد في حجمه فحسب، بل في روح الخشوع التي تملأ أرجاءه.
فالإضاءة الخافتة، والنقوش القرآنية الدقيقة، والفناء الرحب الذي يحتضن قلوب المصلين، كلها صُممت لتجعل الداخل إليه يشعر أنه انتقل من عالم الدنيا إلى سكينة السماء.
فنّ هندسي ينطق بالعقيدة
لم يكن جامع السلطان حسن تحفة معمارية فحسب، بل ترجمة مادية لعقيدة التوحيد التي تُعلي شأن الجمال باعتباره بابًا إلى معرفة الخالق.
تتدرج مساحاته من الضيق إلى الاتساع كما تتدرج النفس من الانشغال بالدنيا إلى صفاء العبادة.
وترتفع قبابه ومآذنه كأنها أيدٍ مرفوعة بالتسبيح.
وقد أُنفِق على بنائه أموال طائلة حتى قيل إن السلطان خصص له إيرادات مدن بأكملها، لكنه لم يُبنَ للفخر الدنيوي، بل لوجه الله، استجابةً لحديث النبي ﷺ: «من بنى لله مسجدًا، ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتًا في الجنة» (رواه ابن ماجه).
ويحكي المؤرخون أن السلطان حسن لم يرَ المسجد مكتملًا، فقد اغتيل قبل أن يُفتتح، فظلّ البناء شاهدًا على صدقه في نية العبادة، وخلوده معمارًا في الدنيا وأجرًا في الآخرة.
المدرسة السلطانية.. جامعة المذاهب الأربعة
صُمم المسجد ليضم أربع مدارس فقهية لتدريس المذاهب السنية الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي)، في خطوة فريدة لتوحيد الفكر الإسلامي ونشر التسامح الفقهي.
وقد كان طلاب العلم يفدون من أقطار العالم الإسلامي، فيقيمون داخله طلبًا للعلم والعبادة.
كان المسجد آنذاك جامعة مفتوحة قبل الأزهر بقرون، يجمع بين العبادة والعلم، ويعكس مقولة الإمام الشافعي الشهيرة:
“العلم ما نفع، ليس العلم ما حُفظ.”
ومن هنا أدرك المماليك أن العلم عبادة، وأن المسجد هو المنبر الجامع بين الروح والعقل.
جامع أحمد بن طولون.. حين تجتمع البساطة بالعظمة
وعلى بُعد بضعة كيلومترات من ميدان القلعة، في حي السيدة زينب، يطلّ جامع أحمد بن طولون، الذي بُني عام 879م على جبل يُعرف بـ “جبل يشكر”.
يُعدّ هذا المسجد أقدم مسجد في مصر ما زال يحتفظ بهيئته الأصلية، وأكبرها مساحةً حتى اليوم.
بناه أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، ليكون رمزًا للهوية الإسلامية المصرية المستقلة عن الخلافة العباسية في بغداد.
ويتميز المسجد بفنّه البسيط ومآذنه الحلزونية المستوحاة من مئذنة سامراء، ليجسد روح التواضع والزهد.
البساطة التي تنطق بالعظمة
ليس في جامع ابن طولون زخارف مذهّبة أو نقوش متكلفة، بل جماله في فراغه، وفي الضوء الذي يتسلل من نوافذه ليكتب على الجدران آياتٍ من النور.
يُشعر الداخل إليه أنه أمام لوحة من الصفاء الروحي، لا تنافس فيها للألوان ولا للمظاهر، بل سكينة مطلقة تذكّرك بأن العظمة في البساطة.
وقد عبّر الإمام علي رضي الله عنه عن هذه الروح حين قال: “زهد المرء في الدنيا راحة قلبه وجسمه".
وكأن مسجد ابن طولون تجسيدٌ لهذه الحكمة؛ بناؤه لا يُبهرك بمظهره فحسب، بل يجذبك إلى عمق الروح، حيث يلتقي الفن بالزهد، والجمال بالتجرد.
المئذنة الحلزونية.. نداء يرتفع من القلب إلى السماء
تُعد مئذنة جامع ابن طولون من أعاجيب العمارة الإسلامية؛ فهي فريدة في شكلها الحلزوني الذي يصعد تدريجيًا نحو السماء، رمزًا لارتقاء الروح في مدارج الإيمان.
وقد استُوحي تصميمها من مئذنة سامراء، لكنها حملت لمسة مصرية خالصة، جعلتها نموذجًا يتفرد به مسجد القاهرة على مرّ العصور.
وكان الأذان يرتفع منها كل يوم خمس مرات، ليذكر الناس بقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
بين المهابة والزهد.. رسالة معمارية خالدة
يختلف جامع السلطان حسن عن جامع ابن طولون في الأسلوب، لكنهما يلتقيان في الجوهر؛ فكلاهما مدرسة في فهم الجمال بوصفه عبادة.
الأول يجسد مهابة الملك العادل، والثاني يعبر عن زهد العابد الصادق، وكلاهما يرسمان وجهًا من وجوه الحضارة الإسلامية في مصر التي جمعت بين الخشوع والفن، بين العظمة والرحمة.
يقول النبي ﷺ: «إن الله جميل يحب الجمال» (رواه مسلم).
فجمال العمارة الإسلامية في هذين المسجدين لم يكن ترفًا فنيًا، بل تعبيرًا عن حب الله عبر إتقان العمل، ليبقى المسجد شاهدًا على أن الإسلام دين الجمال والنظام والتناسق.
حين يتحدث الحجر بلغة الإيمان
في كل ركن من أركان جامع السلطان حسن وابن طولون، تهمس الحجارة بذكر الله، وتروي قصة حضارةٍ آمنت بأن العبادة لا تقتصر على السجود، بل تمتد إلى الإبداع والإتقان.
فالمسجد في الإسلام ليس جدرانًا للصلاة فقط، بل رسالة خالدة تجمع بين الروح والعقل، بين الإيمان والجمال.
وهكذا ستبقى مآذن القاهرة، من السلطان حسن إلى ابن طولون، تُعلن في وجه الزمن أن الإسلام باقٍ في فنّه كما هو باقٍ في قلب المؤمنين، وأن كل منارة ترتفع هي شهادة جديدة بأن