الأزهر الشريف.. منبر صناعة وعي النصر في ذكرى أكتوبر المجيد
لم يكن جيش مصر وحده في الميدان، بل كانت الأمة كلها في خندق واحد، يحمل كلٌّ منها سلاحه وفق موقعه وقدرته وفي قلب هذه الملحمة التاريخية، وقف الأزهر الشريف شامخًا بدوره الديني والفكري والوطني، إذ كان منبر الإيمان الذي أيقظ في النفوس روح الجهاد، ومنارة الوعي التي أسقطت هزيمة 1967 من القلوب قبل أن تُسقطها المدافع على الأرض.
منذ اللحظة الأولى لاحتلال سيناء عام 1967، حمل الأزهر على عاتقه مهمة إعادة الثقة إلى نفوس المصريين والعرب، وغرس العقيدة الراسخة بأن تحرير الأرض فريضة شرعية، وأن الصبر والجهاد في سبيل الله والوطن سبيل النصر والتمكين وهكذا كان الأزهر بعلمائه ومساجده وجامعته في طليعة الجبهة الداخلية التي أعدّت الأمة لمعركة المصير.
منابر الأزهر.. شعلة الإيمان التي سبقت المعركة
منذ نكسة يونيو 1967، بدأ الأزهر الشريف حملة إيمانية ووطنية ضخمة، كان هدفها الأول بثّ روح الأمل في نفوس المصريين فقد دعا الإمام الأكبر شيخ الأزهر إلى الصبر والثبات، مؤكدًا في خطبه وبياناته أن الهزيمة لا تعني نهاية الطريق، بل هي ابتلاء من الله يختبر به عزائم المؤمنين.
وانطلقت المساجد التابعة للأزهر في كل ربوع البلاد تُلهب القلوب بآيات الجهاد والوحدة والصبر. ولم يكن الحديث عن الجهاد مجرد شعارات، بل كان تحريضًا شرعيًا على الدفاع عن الوطن باعتباره من أعظم فروض الكفاية، كما قرر علماء الأزهر في فتاويهم.
وفي الجامع الأزهر، ارتفعت الخطب لتربط بين النصر والإيمان، وتؤكد أن التحرير لا يكون إلا بسواعد مؤمنة وقلوب مطمئنة. كما نظم الأزهر حملات دعوية في الريف والقرى والنجوع، لتقوية الجبهة الداخلية وتثبيت القيم الوطنية في مواجهة دعاوى الإحباط واليأس التي بثّها العدو.
علماء الأزهر في الميدان
لم يكتفِ الأزهر بالدور الدعوي داخل المساجد، بل شارك علماؤه فعليًا في جبهات القتال إلى جانب الجنود ففي حرب الاستنزاف التي سبقت أكتوبر، سُيّر العديد من القوافل الدعوية إلى خطوط المواجهة، وكان من بين المشاركين نخبة من علماء الأزهر وأساتذته، الذين اصطحبوا الجنود في مواقعهم، يُلقون عليهم الدروس الدينية، ويرفعون معنوياتهم، ويوجهونهم إلى مقاصد الجهاد الشرعي في الدفاع عن الوطن.
وقد صدرت عن الأزهر فتاوى شرعية واضحة تُجيز القتال ضد العدو المحتل بوصفه جهادًا مشروعًا، بل وواجبًا على كل قادر.
وأكدت تلك الفتاوى أن من يُقتل في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض هو شهيد له أجر عظيم عند الله، مما رفع الروح المعنوية للمقاتلين، وأضفى على المعركة بُعدًا دينيًا عميقًا جعلها جهادًا مقدسًا قبل أن تكون حربًا عسكرية.
ومن أبرز مواقف الأزهر في تلك الفترة، إصدار بيان رسمي من هيئة كبار العلماء يؤكد أن تحرير الأرض المغتصبة فريضة شرعية لا تسقط بالتقادم، وأن كل مسلم يجب أن يشارك في نصرة وطنه بما يستطيع، سواء بالسلاح أو بالمال أو بالكلمة.
خلال عامي 1972 و1973، تضاعف نشاط الأزهر في إعداد الأمة للمعركة الفاصلة فقد تم إعداد برامج دعوية خاصة تتناول مفهوم الجهاد والدفاع عن الوطن، تُبث عبر إذاعة القرآن الكريم، وتُنشر في الصحف والمجلات، وتلقى في المساجد الكبرى، وعلى رأسها الجامع الأزهر ومسجد الحسين ومسجد السيدة زينب.
كما خصص الأزهر خطب الجمعة لتوعية الناس بالمسؤولية الدينية والوطنية تجاه أرضهم وعقيدتهم، مؤكّدًا أن من مات دون أرضه فهو شهيد وكانت الخطب تعبّر عن نبض الشارع، وتغذي الإيمان والعزيمة، حتى أصبحت المساجد مدارس إعداد روحي ومعنوي للجنود والمدنيين على السواء.
ولم يكن تأثير الأزهر مقصورًا على مصر، بل امتد إلى العالم الإسلامي كله، عبر البعثات الأزهرية المنتشرة في إفريقيا وآسيا، حيث وجّه العلماء الدعوة إلى دعم مصر في معركتها، باعتبارها معركة الأمة كلها ضد العدوان الصهيوني.
الأزهر بعد النصر.. تثبيت الوعي وصون الهوية
بعد أن تحقق النصر العظيم في السادس من أكتوبر، كان للأزهر الشريف دور بارز في ترسيخ الوعي الوطني والديني بنعمة النصر، وحماية المجتمع من الغرور أو الانقسام فقد وجّه الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود الذي تولى المشيخة في نوفمبر 1973 خطابات مؤثرة إلى الشعب والجيش، يذكّرهم فيها بأن النصر من عند الله، وأنه ثمرة الإيمان والوحدة والصبر.
وأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بيانًا تاريخيًا أكد فيه أن معركة أكتوبر ليست نصرًا عسكريًا فقط، بل نصرٌ إيماني روحي قبل كل شيء، وأن الله تعالى أكرم الأمة بهذا الفتح بعد أن عادت إلى دينها وثقتها بربها وأمر بإقامة صلاة الشكر في جميع المساجد، ودعا إلى مواصلة الجهاد العلمي والأخلاقي لبناء مصر ما بعد الحرب.
كما لعب الأزهر دورًا ثقافيًا مهمًا في توثيق أحداث الحرب من منظور ديني وتربوي، حيث نُشرت دراسات ومحاضرات في جامعة الأزهر تشرح العلاقة بين العقيدة والنصر، وتربط بين روح الإيمان والعمل العسكري المنظم.