فتاوى السوشيال ميديا.. بين الفوضى الرقمية وتشكيل وعي الشباب

في عصر السوشيال ميديا لم يعد الدين حاضرًا فقط في المساجد أو من خلال الدروس العلمية، بل أصبح له منبر موازٍ على شاشات الهواتف المحمولة بضغطة زر، يستطيع أي شخص أن يستمع إلى فتوى حول الصلاة أو الطلاق أو حتى قضايا سياسية معقدة ومع انفتاح الفضاء الرقمي، لم تعد الفتوى حكرًا على العلماء ولا على المؤسسات الشرعية الرسمية، بل اقتحمها المؤثرون، والباحثون عن الشهرة، وحتى غير المتخصصين.
هذا المشهد الرقمي الجديد أفرز ظواهر متناقضة: فبينما أتاح للناس وصولًا سريعًا إلى المعلومة الدينية، فإنه في الوقت ذاته فتح الباب أمام غياب المرجعية وظهور فتاوى متناقضة تُربك الشباب وتؤثر على وعي المجتمع الديني.
والسؤال: هل ما نراه اليوم هو تجديد لخطاب الفتوى بما يناسب العصر، أم انحدار خطير يهدد مصداقية الدين نفسه؟
الفتوى في الإسلام: تكليف شرعي ومسؤولية جسيمة
الفتوى في جوهرها ليست رأيًا شخصيًا، بل هي إخبار عن حكم الله في قضية معينة. قال تعالى:
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ﴾ (النساء: 176).
وجاء في الحديث الشريف: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" (رواه الدارمي).
ولهذا وضع العلماء شروطًا دقيقة للمفتي، منها: الإلمام بعلوم القرآن والحديث، معرفة مقاصد الشريعة، الدراية بأقوال الفقهاء، القدرة على ربط الحكم بالواقع، مع الورع والتقوى.
إذن، الفتوى مسؤولية شرعية كبرى، لا يتولاها إلا من جمع بين العلم العميق والورع الصادق، وهي أبعد ما تكون عن الاستسهال أو التسرع.
الفتوى عبر التاريخ
منذ عهد النبي ﷺ، كان الصحابة يفتون الناس بما تعلموه من القرآن والسنة فكان ابن عباس يُلقب بـ "ترجمان القرآن"، وابن مسعود مرجعًا في الفقه، وعائشة رضي الله عنها مرجعًا في قضايا الأسرة والنساء.
ومع اتساع رقعة الإسلام، ظهر الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) الذين وضعوا مدارس فقهية متكاملة، وأرسوا قواعد الاجتهاد والفتوى.
وفي العصور الإسلامية المتعاقبة، ظهرت مؤسسات لتنظيم الفتوى، مثل القضاء الشرعي و"دار الإفتاء" التي نشأت في مصر عام 1895 لتكون المرجعية الرسمية كما ظل الأزهر الشريف عبر تاريخه مؤسسة علمية تضبط الفتوى وتمنحها الشرعية.
بهذا التاريخ العريق، ظلت الفتوى مرتبطة بالعلماء والمؤسسات، إلى أن جاءت ثورة الإنترنت لتفتح الباب أمام كل من يحمل هاتفًا ذكيًا أن يتحول في أعين متابعيه إلى "مفتٍ رقمي".
غياب المرجعية في الفضاء الرقمي
أبرز ملامح الأزمة اليوم أن الفتوى لم تعد مرتبطة بالمرجعيات المعروفة، بل أصبحت متاحة لكل من يريد أن يتحدث باسم الدين. يظهر شخص على "تيك توك" ليجيب عن حكم الطلاق أو الميراث في دقائق معدودة، وآخر على "يوتيوب" يتحدث عن قضايا الجهاد والسياسة الشرعية.
هذا الانفلات جعل بعض الفتاوى تُستخدم لأغراض تجارية أو سياسية، أو حتى للترفيه وجذب المتابعين وهنا يفقد الناس القدرة على التمييز بين فتوى عالم مؤهل و"رأي مدون أو مؤثر".
تضارب الفتاوى: فوضى معرفية تؤدي إلى البلبلة
من أخطر ما أنتجته السوشيال ميديا هو تضارب الفتاوى.
في مسألة مثل تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، تجد رأيًا يحرّم ويصفه بالكفر، وآخر يجوّز باعتباره من البر والإحسان.
في قضايا المرأة كالزي الشرعي، ينتشر رأي يوجب النقاب، وآخر يكتفي بالحجاب، وثالث يصفه عادة اجتماعية.
هذا التضارب يؤدي إلى حيرة الناس، خصوصًا الشباب الذين لم يدرسوا الفقه بعمق ومع كثرة التناقضات، قد يفقد بعضهم الثقة في الدين نفسه، معتبرين أن "كل شيء فيه وجهات نظر".
الشباب في قلب العاصفة: من الحيرة إلى التطرف
الشباب هم الأكثر عرضة لتأثير هذه الفوضى الرقمية، لكونهم الأكثر تواجدًا على المنصات. التأثير يأخذ مسارين خطيرين:
1. الحيرة والشك: بعض الشباب يسألون عن حكم شرعي بسيط فيجدون عشرات الإجابات المتناقضة، فيفقدون الثقة في العلماء، وربما يشككون في ثبات الدين ذاته.
2. التطرف والانغلاق: على الجانب الآخر، يتعرض آخرون لفتاوى متشددة تحض على الكراهية أو التكفير، فتجذبهم إلى جماعات متطرفة تستغل الإنترنت لنشر خطابها.
وقد رصد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف كيف استخدمت تنظيمات متشددة منصات الفتوى الرقمية في تجنيد الشباب عبر إفتاء غير منضبط.
المواقف الرسمية: الأزهر ودار الإفتاء في مواجهة الفوضى
أدركت المؤسسات الدينية خطورة الظاهرة، فسعت إلى تنظيم الفتوى في الفضاء الرقمي:
دار الإفتاء المصرية أطلقت منصات إلكترونية رسمية وصفحات معتمدة للإجابة على الأسئلة.
الأزهر الشريف أكد أن الفتوى "عمل مؤسسي" لا يجوز أن يتصدى له الأفراد.
في السعودية، شددت هيئة كبار العلماء على حصر الفتوى في العلماء المصرح لهم.
في المغرب، فُعل دور المجلس العلمي الأعلى كمرجعية وحيدة للفتوى.
هذه الخطوات تهدف إلى سحب البساط من تحت أقدام المفتين الرقميين الذين يثيرون البلبلة.
الشريعة والتكنولوجيا
الإسلام لا يعارض التكنولوجيا، بل يحث على تسخيرها في الخير.
يقول النبي ﷺ: "بلغوا عني ولو آية" (رواه البخاري) لكن الفرق كبير بين التبليغ والفتوى فالتبليغ قد يقوم به أي مسلم ينقل حديثًا أو آية صحيحة، أما الفتوى فهي اجتهاد علمي يحدد حكم الله في نازلة ما.
الحل إذن ليس في إغلاق المنصات، بل في تأهيل دعاة ومفتين قادرين على استخدام الوسائط الحديثة لتوصيل الفتوى الصحيحة للشباب بلغة عصرية
لكي نتجاوز أزمة فتاوى السوشيال ميديا، يقترح الخبراء:
1. اعتماد منصات رسمية موثوقة للفتوى الإلكترونية.
2. تأهيل علماء شباب يفهمون لغة العصر والتكنولوجيا.
3. توعية الجمهور بضرورة التحقق من مصدر الفتوى قبل العمل بها.
4. تجريم الفتوى بدون ترخيص في بعض القضايا الحساسة، كما فعلت بعض الدول.
الفتوى في الإسلام ليست رأيًا عابرًا، بل هي مسؤولية عظيمة. وقد حذر النبي ﷺ من التجرؤ على الفتوى بغير علم لكن عصر السوشيال ميديا جعل من الفتوى مادة مفتوحة للجميع، حتى تحولت أحيانًا إلى وسيلة للتسلية أو الشهرة.