رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

عبادات المسلمين في الفضاء.. جدل الفقه بين النصوص الشرعية والاكتشافات العلمية

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

مع توسّع النشاط الإنساني في علوم الفضاء ورحلاته، لم يعد السؤال مقتصرًا على الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، بل امتد ليشمل البُعد الديني والفقهي: كيف يؤدي المسلم عباداته وهو في الفضاء؟ كيف يصلّي، ويصوم، ويحدد قبلته، في بيئة لا وجود فيها لليل والنهار بصورتهما المألوفة على الأرض، ولا لمعالم المكان التي اعتمد عليها المسلمون عبر القرون؟ هذا التحقيق يحاول التوقف أمام أبرز هذه التساؤلات من خلال النصوص الشرعية، وآراء الفقهاء، وتجارب بعض رواد الفضاء المسلمين.

الصلاة هي الركن الأعظم بعد الشهادتين، وقد فرضها الله على عباده في كل حال: في السفر والحضر، في الصحة والمرض، على الأرض أو في عرض البحر، فكيف إذا كان المسلم في الفضاء؟
النص القرآني صريح في ذلك: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: 103].

وبالتالي، فإن الصلاة لا تسقط بحال، وإنما يُؤديها المسلم بحسب استطاعته وقد أفتى المجمع الفقهي الإسلامي ودائرة الإفتاء بماليزيا، حيث شارك رائد الفضاء الماليزي "مظفر شكور" في رحلة إلى المحطة الفضائية الدولية عام 2007، بأن الصلاة تُؤدى ولو بالإيماء، مع تحديد أوقاتها بقدر الإمكان استنادًا إلى توقيت البلد الذي انطلق منه الصاروخ (ماليزيا آنذاك).

ثانياً: تحديد القبلة خارج الأرض.. أي اتجاه نتجه؟

الكعبة المشرفة في مكة هي قبلة المسلمين، لكن كيف يُحدد رائد الفضاء اتجاهها في مدار يبعد مئات الكيلومترات عن سطح الأرض؟

جاءت الفتوى الصادرة عن العلماء لتقول: إذا أمكن تحديد الاتجاه بالوسائل العلمية والتقنية المتاحة (مثل الخرائط الرقمية أو أجهزة الملاحة)، فعلى المسلم أن يتجه ما استطاع نحو مكة أما إذا تعذر الأمر، فإنه يصلي حيثما توجهت وسيلته، لقول الله تعالى:
﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115].

وقد دوّن "مظفر شكور" في مذكراته أنه كان يحدد اتجاه الكعبة بشكل تقريبي اعتمادًا على الخرائط، وإن لم يتيسر، فإنه يُصلي في أي اتجاه، تطبيقًا لمبدأ التيسير الذي قررته الشريعة.

ثالثاً: الصيام بين الشروق والغروب في الفضاء

من أكثر المسائل إثارة للجدل: كيف يصوم المسلم في بيئة يشرق فيها النهار ويغرب عدة مرات خلال 24 ساعة (فالمحطة الفضائية تدور حول الأرض كل 90 دقيقة تقريبًا)؟
أجمع الفقهاء المعاصرون على أن الصيام يُحدد وفق توقيت بلد الانطلاق من الأرض، أو أقرب بلد إلى خط سير الرحلة ذلك لأن الأصل في العبادة هو التيسير، ولأن الله تعالى قال:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

وعليه، فإن رائد الفضاء المسلم لا يُرهق نفسه بمطاردة الشروق والغروب في الفضاء، بل يصوم ويفطر تبعًا للتوقيت الأرضي.

رابعاً: الفقه الإسلامي بين النص والواقع العلمي

المسائل المتعلقة بالفضاء تُعتبر من "النوازل الفقهية" التي لم يعرفها المسلمون من قبل ولذلك، فإن الاجتهاد الجماعي هو الوسيلة الأهم في التعامل معها، من خلال المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء.
وقد أكد العلماء أن مقاصد الشريعة قائمة على حفظ الدين، والعقل، والنفس، وأن التكليف لا يتجاوز طاقة المكلف، وأن الله تعالى لا يكلّف الإنسان إلا وسعه. ومن هنا، فإن رائد الفضاء المسلم يؤدي عباداته وفق ما يستطيع، ولا حرج عليه إن خالف في بعض التفاصيل بسبب الظروف الاستثنائية.

خامساً: شهادات وتجارب رواد الفضاء المسلمين

مظفر شكور (ماليزيا): أول من كتب "دليل المسلم في الفضاء" الذي صدر رسميًا من دائرة الإفتاء الماليزية، متضمنًا حلولًا فقهية لكل الإشكالات: الصلاة، الصيام، الطهارة، القبلة.

سلطان بن سلمان (السعودية): شارك في رحلة فضائية عام 1985، وأكد أنه أدى صلاته وهو على متن المكوك الفضائي "ديسكفري" بالإيماء، مستحضرًا نية الصلاة.

تجارب أخرى غير مباشرة لرغبة وكالات الفضاء في إعداد كتيبات دينية لرواد الفضاء المسلمين الذين قد يلتحقون بالبعثات المستقبلية.

سادساً: الفضاء بين الدين والعلم.. توافق لا تناقض

الإسلام لا يرى تعارضًا بين العلم والدين، بل يدعو إلى استكشاف الكون:
﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101].
فالرحلات الفضائية تمثل امتدادًا لروح الاستخلاف في الأرض، واستخدام العقل والعلوم لخدمة البشرية وما دامت هذه الرحلات لا تصرف المسلم عن فرائضه، فإنها صورة عملية لتكامل الدين والعلم.

الإسلام والفضاء ليسا عالمين متوازيين لا يلتقيان، بل بينهما جسور من الأحكام والفتاوى والاجتهادات الفقهية التي تضمن استمرار أداء المسلم لعباداته أينما كان، حتى لو تجاوز حدود الأرض.

الفقه الإسلامي في هذا المجال يمثل نموذجًا للتجديد والتفاعل مع الواقع، مع الالتزام بروح النصوص الشرعية ومقاصدها.

تم نسخ الرابط