رائد الديب يكتب: قراءة في التاريخ.. حين تحول جملة ساخرة إلى إعلان حرب
بعض الحروب قد تبدأ بكلمة أو جملة.. قد تبدو عبارات للبعض عادية، لكن عند الكرامة تشتعل الحروب، فمن يعرف التاريخ يعرف أن الرموز حين تتحرك، تتحرك الجيوش بعدها.. وهنا نقتبس بعض السطور من تاريخنا العظيم، بجملة أشعلت حربا وحققت نصرا عظيما لكن ليس سهلا، جملة ساخرة حركت جيوش مصر الفرعونية، لنتصروا نصرا عظيما خلده التاريخ..
جملة ساخرة.. لم تكن رسالة طويلة، ولا لغة حادة، بل جاءت في ثوب ساخر يبدو عبثيا.. لكنها، في الحقيقة، كانت واحدة من أخطر الرسائل السياسية في تاريخ مصر القديم.. رسالة كتب على إثرها تاريخ دولة جديدة..
إعلان حرب بالقرن السادس عشر قبل الميلاد، ومصر منقسمة.. جسد مشقوق إلى نصفين، الشمال تحت سيطرة الهكسوس، الغزاة القادمون من الشرق، وعاصمتهم أفاريس في دلتا النيل.. والجنوب ما زال مصريًا خالصًا، تحكمه المدينة المقدسة "طيبة"، عاصمة الشمس والملوك.
في الشمال، يجلس ملك الهكسوس "أبوفيس" على عرشٍ لم يكن له يومًا.. وفي الجنوب، يقف ملك طيبة سقنن رع تاعا الثاني ينظر إلى أرض أجداده المسلوبة، حاكم يعرف أن الأرض تهتز من تحته، لكن ينتظر الجهوزية للصدام المحتوم..
رسالة تصل في صباحٍ هادئ، ورسول الهكسوس يصل إلى طيبة.. يحمل رسالة مختومة بخاتم سيده، يفتحها سقنن رع فيجد؛ "أرسل ملك الوجه البحري، أبوفيس، إلى ملك الجنوب سقنن رع يقول: إن أفراس النهر التي في مستنقعات طيبة تُزعج نومي ليلًا ونهارًا في أفاريس، فلتمنعها عن إصدار هذا الضجيج".. لحظة صمت.. ودهشة، ثم فهم وقرار..
سخرية أتت كخنجر تهديد.. كيف بأصوات أفراس النهر أن تقطع مئات الكيلومترات من طيبة إلى دلتا النيل.. رسالة لا تتحدث عن حيوانات… بل تتحدث عن رمز للقوة الجامحة
وللخطر الكامن، وللقدرة على التدمير، فكان أبوفيس يعلم أن قوة الجنوب تزعجه، والنفوذ يقلقه، ويريد من سقنن رع أن يغض طرفه عن الشمال بتلك الرسالة التي حملت الطابع الساخر، لكنها اختبار مباشر لهيبة ملك الجنوب.
تروي البردية التي سردت لنا هذا التاريخ العظيم، أن الملك المصري، سقنن رع؛ جمع مجلسه، وعرض عليهم الرسالة، وأخذ رأيهم، بأن السخرية لابد أن تقابل بالدم، للتحول السخرية إلى صراع مفتوح، ويدخل سقنن رع الحرب.. حتى مات موتا عنيفا في ساحة القتال كشفت عنها مومياؤه؛ ضربات فؤوس، جروح غائرة في الرأس، ملك بطل مات وهو يحارب، لم يمت الملك في فراشه.. لكن القصة لم تنتهِ هنا..
تسلم الراية من بعده أولاده ليحقق أحمس الأول، المستحيل، ويطوى صفحة الهكسوس إلى الأبد.. وتبدأ الدولة الحديثة، عصر الإمبراطورية والقوة المصرية العظمى بالنصر على الغازين المعتدين.
وختاما فليست كل الحروب تبدأ بإعلان رسمي لكن قد تبدأ بكلمة.. تاريخنا العظيم يعلمنا أن النصر آت لا محالة، ولابد من هزيمة المعتدي مهما طال أمده وطالت غطرسته.