الإفتاء تثير الجدل: الفراعنة لم يعبدوا الأصنام بل وحّدوا الخالق وآمنوا بالبعث
في زمنٍ ما زالت فيه الحضارة المصرية القديمة تُقرأ بعدساتٍ مادية غربية، خرج الدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، ليقلب المفاهيم رأسًا على عقب، مؤكّدًا أن الفراعنة لم يكونوا عبدة أصنام كما رُوِّج لعقود، بل كانوا أصحاب عقيدةٍ راسخة في وحدانية الخالق والإيمان بالبعث والحساب.
تصريحاته التي أطلقها في لقاءٍ تلفزيونيٍّ حديث، لم تكن مجرد قراءة دينية للتاريخ، بل ثورة فكرية تدعو إلى إعادة اكتشاف جذور الإيمان في وجدان المصريين القدماء، الذين شيّدوا حضارتهم على أساسٍ من الروح والعلم والجمال معًا.
الورداني يرى أن التاريخ الإيماني لمصر لا يبدأ مع الأديان السماوية، بل يمتد عميقًا في ترابها، وأن نصوص كتاب الموتى، ونقوش المعابد، وفلسفة الفن المصري القديم، كلها تؤكد أن الروح المصرية كانت على صلة بالخالق منذ الأزل، تبحث عن الله في كل مظاهر الكون، وتعبّر عن توحيدها بالجمال والإتقان.
الفراعنة والإيمان بالبعث.. عقيدة نابعة من وجدان المصري القديم
يرفض الدكتور الورداني النظرة الاستشراقية التي اختزلت حضارة الفراعنة في الوثنية والطقوس السحرية، مؤكدًا أن فكرة الحياة بعد الموت كانت معتقدًا أصيلاً في وجدان المصري القديم.
فهو لم يرَ الموت نهاية، بل عبورًا نحو عالم آخر تُوزن فيه أعمال الإنسان، ويحاسَب فيه على ما قدمت يداه.
وقد عبّر المصري القديم عن هذه الرؤية في “كتاب الموتى”، ذلك النص المقدس الذي وثّق رحلة الروح إلى العالم الآخر، حيث المحكمة الإلهية التي يُوزَن فيها القلب مقابل ريشة العدالة الإلهية، في مشهدٍ يُجسد بدقة إيمانه بالجزاء والعدل الرباني.
ويضيف الورداني أن هذه العقيدة لا يمكن أن تكون نتاج خيالٍ أسطوري، بل إرهاص مبكر للتوحيد الذي جاءت به الأديان السماوية لاحقًا.
فالمصري القديم لم يكن يبحث عن الآلهة، بل كان يبحث عن الإله الواحد الذي نظم الكون، وكان يرى في الموت بداية لا نهاية، وفي البعث تجليًا للحكمة الإلهية والعدالة الأبدية.
الفراعنة ووحدانية الخالق.. التوحيد في برديات مصر القديمة
وفي استعراضه للنصوص المصرية القديمة، أشار الورداني إلى أن الفراعنة تركوا عبارات توحيدية بليغة، منها ما جاء في إحدى بردياتهم: "أنت الأول وليس قبلك شيء، وأنت الآخر وليس بعدك شيء".
كلماتٌ تختصر كما يقول لبّ العقيدة الإسلامية في التوحيد، وتكشف عن وعيٍ دينيٍ عميقٍ سبق نزول الشرائع السماوية بآلاف السنين.
ويرى أن هذه النصوص تُظهر أن الروح المصرية لم تكن وثنية في أصلها، وإنما كانت فطرة توحيدية انحرفت بعض مظاهرها مع مرور الزمن.
ولم يكن هذا الطرح جديدًا على الفكر المصري المعاصر، إذ تبنّاه عدد من المفكرين، أبرزهم الدكتور مصطفى محمود، الذي دعا إلى إعادة قراءة التاريخ المصري القديم من منظورٍ توحيدي لا مادي.
فهو يرى كما نقل الورداني أن الفراعنة آمنوا بإلهٍ واحدٍ تجلّى في مظاهر الطبيعة، وأن تعدد الأسماء لم يكن تعددًا في الآلهة، بل تعدد صفاتٍ لخالقٍ واحدٍ مطلق القدرة.
المعابد المصرية.. بيوتٌ للروح لا للأصنام
من أبرز النقاط التي طرحها أمين الفتوى أن المعابد المصرية لم تكن أماكن لعبادة الأصنام كما اعتقد كثير من المؤرخين، بل كانت مدارس روحية ومعاهد للتأمل في عظمة الله.
يقول الورداني: المصري القديم لم يدخل المعبد ليعبد حجرًا، بل ليتأمل في الجمال الإلهي الذي يُرى في كل شيء حوله.
ويضرب مثالًا بمعابد الأقصر والكرنك، التي تجسّد مزيجًا مذهلًا من الدقة الهندسية والروحانية، إذ صُمّمت بطريقة تجعل حركة الضوء والظل تنسجم مع دورة الشمس، لتتحول قاعاتها إلى فضاءٍ روحانيٍّ يدفع الزائر إلى الخضوع لجلال الخالق.
أما النقوش الدقيقة على الجدران، فلم تكن رموزًا وثنية بل لغة تأملية عميقة تعبّر عن نظامٍ كونيٍّ دقيقٍ يقوده الخالق الواحد.
وهو ما يعبّر عنه النبي ﷺ في قوله: إن الله جميل يحب الجمال، في إشارةٍ إلى أن الإتقان الفني نوعٌ من العبادة.
فالفرعون لم يكن نحاتًا يصنع تمثالًا للزينة، بل مؤمنًا يرى في كل تفصيلةٍ من صنعه وجهًا من وجوه الله الجميل
من عند الله.. دعوة لإعادة قراءة التاريخ المصري
شدّد الدكتور الورداني على ضرورة إعادة قراءة التاريخ المصري القديم من عند الله، أي من منظورٍ يؤمن بأن الحضارة لا تُبنى إلا بروحٍ إيمانية.
فالحضارة المصرية كما يقول لم تقم على المادة فقط، بل على فكرة روحية ترى في الإتقان عبادة، وفي الجمال طريقًا للإيمان.
وإن اختزالها في صورٍ وثنيةٍ لا يُنصفها، لأنها في حقيقتها كانت حضارة وحيٍ وعمران، امتزج فيها العلم بالروح، والهندسة بالخشوع، والعقل بالنور الإلهي.
ويضيف: مصر كانت وما زالت محطة من محطات النور الإلهي في تاريخ الإنسانية، إذ امتزج فيها العلم بالإيمان، والجمال بالروح، والعقل بالوحي، لتصنع أعظم نموذج حضاري عرفته البشرية.
هذه الكلمات تعيد الاعتبار إلى الإيمان كركيزة أساسية في بناء الحضارة، وتدعو إلى قراءة جديدة تُنصف المصري القديم وتعيد له مكانته كـ"مؤمنٍ معمّرٍ للأرض" لا كـ"وثنيٍّ صانعٍ للأصنام".
الفن المصري القديم.. جمالٌ نابع من الإيمان
يشير الورداني إلى أن الفن عند الفراعنة لم يكن ترفًا أو زخرفًا دنيويًا، بل تعبيرًا عن نزعة دينية عميقة.
فالنقوش التي تزيّن جدران المقابر لم تُنحت لتخليد أسماء الملوك، بل لتذكيرهم بالبعث والمحاسبة، ولتكون شاهدًا على إيمانهم بعدل الخالق.
حتى تصميم المقابر والمعابد وفق مواقع فلكية دقيقة، واستخدام الضوء لتحديد المواعيد المقدسة، كل ذلك يُظهر وعي المصري القديم بالنظام الكوني الإلهي الذي يسير وفق ميزانٍ دقيق.
إن الفن المصري القديم، كما يراها الورداني، لغةٌ روحية قبل أن يكون جمالية؛ فقد كان الفنان يرى في كل لونٍ وشكلٍ وإيقاعٍ وسيلةً لتمجيد الله، وليس لمتعة العين فقط.
ومن هنا، يمكن القول إن الجمال عند المصري القديم لم يكن للزينة، بل للتسبيح، لأن كل مظاهر الإتقان كانت تؤدي إلى هدفٍ واحد: إرضاء الخالق.
زيارة المعابد اليوم.. رحلة روحية إلى الجذور الأولى
يختتم الدكتور عمرو الورداني رؤيته بدعوةٍ معاصرة، حين قال إن زيارة المعابد والمتاحف اليوم يجب أن تتحول إلى رحلةٍ روحية وتأملية، تعيد الإنسان إلى جذوره الأولى، وتذكّره بأن هذه الآثار ليست مجرد حجارة، بل صفحات من سفر الإيمان الإنساني.
ويتابع: "المعابد لم تكن ضد الإيمان، بل كانت بدايته الأولى، ومصر ستظل بلد النور والإيمان والجمال التي أضاءت للعالم طريق الحضارة والروح معًا".