باقي علي افتتاح المتحف الكبير
  • يوم
  • ساعة
  • دقيقة
  • ثانية
رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

بين الشاشة والشرع.. زواج بلا وليّ ولا شهود يثير عواصف الفتوى والمجتمع

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

في عصرٍ صار فيه الهاتف المحمول نافذةً كونية تُطلّ على العالم، وتحوّلت فيه مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحاتٍ للتعارف والارتباط والتواصل، برزت ظاهرة جديدة أثارت الجدل بين الفقهاء والمجتمعات: الزواج الإلكتروني.

لم يعد الزواج، في بعض البيئات، يمرّ بالمراحل التقليدية المعروفة من الخطبة والمجالس العائلية؛ بل باتت بعض العلاقات تبدأ برسالة إلكترونية وتنتهي بعقد نكاح يُبرم عبر مكالمة فيديو أو بريد إلكتروني موثق هذه الظاهرة، التي تتسارع وتيرتها في المجتمعات المسلمة والعربية، طرحت تساؤلات حادة حول مشروعيتها، وحدود المقبول شرعًا فيها، ومدى توافقها مع مقاصد الإسلام في حفظ الأسرة والنسل والعِرض.

فهل يقبل الشرع عقد الزواج عبر الإنترنت؟ أم أن الوسائل الحديثة لا تُغيّر من الثوابت الشرعية شيئًا؟ بين الإباحة المقيدة والتحريم التحوّطي، تتعدد الرؤى، ويتضح أن الحكم ليس في الوسيلة بقدر ما هو في تحقق الأركان والضوابط التي شرعها الله لحماية العلاقة الزوجية.

مفهوم الزواج الإلكتروني.. من التعارف إلى العقد

الزواج الإلكتروني هو مصطلح واسع يضم مستويين أساسيين:

1. التعارف الإلكتروني: حين يتعرّف شاب وفتاة عبر مواقع التواصل أو تطبيقات الزواج أو منصات دينية مخصصة للزواج الشرعي، تمهيدًا للتعارف الجاد بإشراف الأهل أو المأذون.


2. العقد الإلكتروني: وهو المرحلة التي يتم فيها الإيجاب والقبول عبر وسيلة إلكترونية كالبث المباشر، أو المكالمة المرئية، أو التوثيق الرقمي عبر منصات حكومية أو دينية، دون الحضور المادي للطرفين في مكان واحد.


ويُعدّ التمييز بين هاتين المرحلتين جوهريًّا؛ إذ يترتب عليه اختلاف الحكم الشرعي فالتعارف المشروع الذي يهدف إلى الزواج مع الالتزام بالضوابط الشرعية لا حرج فيه، بينما عقد النكاح عبر الوسائل الحديثة يحتاج لتدقيقٍ فقهيٍّ خاص، لأن النكاح من العقود العظيمة التي لا يُستهان بها.

الزواج في ميزان الشريعة.. أركان لا تسقط

الشريعة الإسلامية جعلت الزواج ميثاقًا غليظًا، فقال تعالى:

«وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا» (النساء: 21)،
وجعل له أركانًا وشروطًا تحفظ الحقوق وتصون الكرامة وتمنع العبث بهذا الرباط المقدس.

أركان عقد الزواج الأساسية:

1. الزوجان الخاليان من الموانع الشرعية كالقرابة أو العدة أو اختلاف الدين.


2. الإيجاب والقبول: وهما صيغة العقد بين الطرفين، كأن يقول الولي "زوّجتك ابنتي" فيقول الزوج "قبلت".


3. الوليّ للمرأة البكر، لقوله ﷺ:

«لا نكاح إلا بوليّ» (رواه أبو داود والترمذي).

4. الشهود: لإثبات العقد ومنع التلاعب، لقوله ﷺ:

«لا نكاح إلا بوليّ وشاهدي عدل» (رواه البيهقي).


5. المهر: وهو واجب تكريمًا للمرأة، قال تعالى:
«وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً» (النساء: 4).


هذه الأركان هي التي تحدد صحة النكاح، سواء جرى في مسجدٍ أو في منصة إلكترونية؛ فالمكان لا يغيّر الحكم، ما دام الشرط قائمًا والإيجاب والقبول متحققين بوعيٍ ورضا وشهودٍ وعدالة.


يرى جمهور الفقهاء أن حضور المتعاقدين أو وكلائهما في مجلس العقد شرطٌ جوهري، لكن مفهوم "المجلس الواحد" لا يعني الحضور المادي فقط، بل يمكن تحققه بالاتصال المتزامن الذي يُسمع فيه الإيجاب والقبول في الوقت نفسه.

وقد ذكر الفقهاء قديماً جواز النكاح بالمكاتبة أو بالرسول أو بالوكالة، كما قال الإمام النووي في "روضة الطالبين":
"إذا كتب الرجل إلى المرأة: قد تزوجتك، وكتبت إليه: قبلت، فإن علم كلٌّ منهما كتاب الآخر صحّ العقد".

وبناءً عليه، فإن العقد الإلكتروني يأخذ حكم النكاح بالمكاتبة أو الاتصال المرئي، بشرط أن يتحقق التزامن، وتُعرف هوية المتكلم، ويُسمع الإيجاب والقبول بوضوح.

أدلة الإباحة بشروط

يرى بعض العلماء المعاصرين أن الزواج الإلكتروني جائز شرعًا بشروط محددة، استنادًا إلى قواعد فقهية معتبرة:

1. قاعدة الوسائل تأخذ حكم المقاصد: فالإنترنت مجرد وسيلة، إن استُعمل في الخير صار خيرًا، وإن أُسيء استعماله صار شرًّا.

2. حديث النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات» (متفق عليه)، فيُعتبر النكاح صحيحًا إن كانت النية صحيحة والوسائل مشروعة.

3. قياسًا على الزواج بالوكالة والمكاتبة التي أجازها العلماء قديماً، إذ لم تكن الصورة أهم من تحقق المعنى.

4. قاعدة "الأصل في العقود الإباحة"، ما لم تتعارض مع نصٍّ أو قاعدة شرعية قطعية.

يُضاف إلى ذلك أن بعض الدول الإسلامية  مثل السعودية والإمارات  بدأت تقنين خدمة التوثيق الإلكتروني للزواج ضمن منصات حكومية، مع توثيق الشهود والوليّ والمأذون عبر النظام الإلكتروني، مما يُظهر إمكانية الجمع بين الشريعة والتكنولوجيا دون إخلال بالأركان.

التحفظات الشرعية والواقعية

رغم ما سبق، فإن للعلماء تحفظات قوية على انتشار الزواج الإلكتروني دون ضوابط صارمة:

1. غياب التحقق من الهوية

من أكبر المخاطر أن يدّعي أحد الطرفين هويةً غير حقيقية، أو يخفي زواجه الأول، أو يستخدم صوراً مزيفة وفي هذه الحالة يقع الغش الذي حرّمه النبي ﷺ بقوله: «من غش فليس منا» (رواه مسلم).

2. تغييب الوليّ والشهود

قد تجري العقود في سرية تامة عبر الإنترنت دون علم الأهل، وهو ما يفتح باب العلاقات غير الشرعية المغلّفة بمسمّى الزواج، فيضيع المقصد الأصيل لحماية العرض.

3. ضعف النية والجدّية

التواصل الإلكتروني السريع يجعل بعض الشباب يعقدون الزواج تحت تأثير العاطفة اللحظية، دون إدراك لواجبات العقد ومسؤولياته، مما يُنتج زواجات هشة سرعان ما تنتهي بالطلاق.

4. صعوبة الإثبات

إذا وقع خلاف بين الطرفين، كيف يمكن إثبات الزواج أو الطلاق أمام القضاء؟ التسجيل الإلكتروني قد لا يُعتبر كافياً في بعض الدول ما لم يكن موثقًا رسميًا.

دار الإفتاء المصرية الزواج عبر الإنترنت لا يُعتد به شرعًا إلا إذا توافرت جميع الأركان وتم توثيقه رسميًا أمام الجهات المختصة.

رأي المؤسسات الدينية الرسمية

1. الأزهر الشريف

أكدت هيئة كبار العلماء بالأزهر أن الزواج الإلكتروني غير جائز إذا تمّ دون إشراف وليّ المرأة أو غياب الشهود، مشددة على أن الهدف من حضورهم هو ضمان علانية العقد وصيانة الحقوق.

2. دار الإفتاء المصرية

صرّحت الدار بأن الزواج عبر الإنترنت لا يصح شرعًا إذا اقتصر على مجرد محادثة أو مكالمة أو تبادل عبارات القبول دون توثيق أو إشراف مأذون شرعي، مشيرة إلى أن الوسائل الحديثة يمكن الاستفادة منها في إجراءات التوثيق بعد استيفاء الأركان.

3. المجمع الفقهي الإسلامي

أصدر المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي توصية عام 2020م بجواز النكاح الإلكتروني عند الضرورة، بشرط التأكد من هوية الأطراف ومشاركة الوليّ والشهود ومأذون رسمي مع تسجيل صوتي ومرئي للعقد.

بين فقه الواقع ومقاصد الشريعة

الشريعة الإسلامية ليست جامدة، بل تراعي الواقع ومصالح الناس، ما دامت لا تُخالف نصوصها القطعية. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد".

فإن كان الزواج الإلكتروني يوفر حلاً حقيقيًا للعوائق الاجتماعية (كالسفر أو الغربة أو تعذّر اللقاءات بسبب الحروب أو المسافات)، فيمكن قبوله ضمن إطارٍ من الضوابط الصارمة أما إن أصبح وسيلة للعبث بالعلاقات أو التحايل على الشريعة، فيجب منعه حمايةً للأسرة والمجتمع.

الضوابط الشرعية المقترحة للزواج عبر الإنترنت

1. تحقق هوية الأطراف رسميًا عبر وثائق وصور مرئية حقيقية.

2. حضور الوليّ أو وكيله الشرعي مع إعلانه القبول والإيجاب.

3. وجود شاهدين عدلين يسمعان العقد بوضوح، ولو عبر البث المباشر.

4. توثيق العقد إلكترونيًا في منصة حكومية أو دينية مع اعتماد مأذون شرعي.

5. تحديد المهر والشروط في وثيقة مكتوبة ومعتمدة.

6. الإعلان العلني عن الزواج ولو في نطاق محدود، حماية من الزواج السرّي.

7. مراعاة النية الصادقة واستبعاد العلاقات العابثة أو المزيفة.

بين الحرية والضبط.. رؤية اجتماعية

لا يمكن إنكار أن الزواج الإلكتروني جاء نتيجة لتحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة، منها ارتفاع تكاليف الزواج، وضعف فرص التعارف التقليدي، وهجرة الشباب للعمل بالخارج. 

لكن تحويل الزواج إلى "صفقة رقمية" بلا روح، يجعل من العلاقة الزوجية مجرّد عقد إلكتروني خالٍ من المودة والرحمة التي قال الله عنها:
«وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً» (الروم: 21).

وعليه، يجب أن تكون التكنولوجيا وسيلة للتيسير لا للتفريط، وأن تظل الروح الإنسانية والنية الصادقة والشفافية في المقدمة قبل أي وسيلة تقنية.

الحكم الشرعي الراجح

بعد استعراض الأدلة والمواقف، يمكن القول إن الزواج الإلكتروني جائز شرعًا من حيث المبدأ، إذا توافرت فيه جميع الأركان الشرعية، وتحققت مقاصد النكاح، وتم توثيقه رسميًا بإشراف وليّ وشهود وعدول.

أما الزواج الإلكتروني الذي يتمّ في الخفاء أو عبر دردشات أو رسائل خاصة بلا وليّ ولا شهود ولا توثيق، فهو باطل شرعًا ومحرّم قانونًا، لأنه يفتقد لأهم ركائز النكاح الشرعي.

فالشرع لا يرفض الوسائل الحديثة، لكنه يشترط أن تُستخدم في خدمة المقاصد لا في هدمها. وبذلك يتحقق قول الله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا» (النساء: 28).
 

تم نسخ الرابط