باقي علي افتتاح المتحف الكبير
  • يوم
  • ساعة
  • دقيقة
  • ثانية
رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

المساجد في الغرب.. من منابر العبادة إلى قلاع الهوية الإسلامية

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

في قلب العواصم الغربية التي تعجّ بالضجيج، وبين ناطحات السحاب ومراكز التسوّق العملاقة، تصدح المآذن بنداءٍ مختلف يحمل دفءَ الشرق وإيمانَ الرسالة في لندن وباريس ونيويورك وبرلين، تتعالى أصوات الأذان كنبضٍ روحي لا تخطئه الآذان، تُذكّر المسلمين بأنهم وإن ابتعدوا جغرافيًا عن مكة والمدينة، فإن قلوبهم ما زالت معلّقة ببيوت الله.

تحولت المساجد في الغرب إلى أكثر من أماكن صلاة إنها مدارسٌ للحفاظ على العقيدة، ومراكز لتربية الأجيال، ومنابر للتواصل الحضاري والتعريف بالإسلام الصحيح وسط التحديات الثقافية والسياسية والإعلامية، برزت هذه المساجد كحائط صدٍّ أمام تيارات الذوبان والاغتراب، وكشاهدٍ حيّ على أن الإسلام دينٌ عالمي قادر على التفاعل مع كل البيئات دون أن يفقد أصالته.

لم يكن المسجد في المفهوم الإسلامي مكانًا للصلاة فحسب، بل مؤسسة جامعة تتكامل فيها العبادة بالعلم والإدارة والدعوة. فمن مسجد النبي ﷺ في المدينة، خرجت البعثات التعليمية، وعُقدت مجالس الشورى، وانطلقت سرايا الجهاد والإصلاح.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" [النور: 36].

وهذه البيوت التي أذن الله أن تُرفع، هي المساجد التي تُبنى لتكون منارات للذكر والإيمان والتزكية.
ولذلك قال النبي ﷺ: "من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة" [رواه البخاري ومسلم].

بهذه الروح، حمل المسلمون معهم إلى الغرب فكرة المسجد ليس كرمزٍ عمراني، بل كقيمةٍ حضارية تحفظ دينهم وتربطهم بأمتهم.

من مصليات بسيطة إلى مؤسسات حضارية متكاملة

بدأت قصة المساجد في أوروبا وأمريكا مع الموجات الأولى من المهاجرين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كان المسلمون يؤدون صلواتهم في غرفٍ مستأجرة أو أقبية منازل بسيطة ومع تزايد أعدادهم، تحوّلت تلك المصليات إلى مراكز دعوية واجتماعية، ثم إلى مساجد كبيرة تزيّن الأحياء الغربية بقبابها ومآذنها.

في بريطانيا، يمثل المسجد المركزي في لندن نموذجًا بارزًا؛ فهو لا يقتصر على إقامة الصلوات، بل يضم مكتبة إسلامية ضخمة، ومدرسة لتعليم اللغة العربية، ومركزًا للحوار بين الأديان أما مسجد باريس الكبير، فقد شُيّد في عشرينيات القرن الماضي تكريمًا للجنود المسلمين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، وأصبح اليوم أحد أهم رموز الإسلام في أوروبا.

وفي الولايات المتحدة، يقف المركز الإسلامي في واشنطن شاهدًا على عراقة الوجود الإسلامي الأمريكي، بينما تحولت مدينة ديربورن بولاية ميشيغان إلى ما يشبه "المدينة الإسلامية الصغيرة"، حيث تنتشر المساجد في كل شارع تقريبًا، وتستضيف برامج اجتماعية وثقافية على مدار العام.

تشير الإحصاءات الحديثة إلى أن عدد المساجد في أوروبا تجاوز 10 آلاف مسجد، منها 2500 في فرنسا وحدها، وأكثر من 1900 في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة ما يزيد على 2700 مسجد، مما يعكس حيوية المجتمع الإسلامي وقدرته على النمو والاستقرار رغم ما يواجهه من تحديات.

المساجد.. حُرّاس الهوية في مواجهة العولمة الثقافية

يعيش المسلمون في الغرب بين تيارين متناقضين: تيار الاندماج الكامل الذي يهدد الهوية الدينية، وتيار الانغلاق الذي يعزلهم عن المجتمع وفي خضمّ هذا التوازن الدقيق، يقف المسجد كمنارةٍ تحفظ العقيدة وتربط الأجيال الجديدة بجذورها الروحية والثقافية.

تؤكد الدراسات الميدانية أن أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين الذين يرتادون المساجد بانتظام، هم الأكثر وعيًا بهويتهم الإسلامية، والأقدر على التوفيق بين انتمائهم الديني والمواطنة الغربية.

يقول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: 103].

فالمساجد في الغرب تقوم بهذا الدور الجوهري؛ فهي تجمع شتات الجاليات، وتغرس في نفوس الشباب روح الانتماء، وتمنحهم القوة لمواجهة الضغوط الفكرية والإعلامية التي تشكك في الدين أو تشوه صورته.

ويروي أحد الأئمة في ألمانيا أن كثيرًا من الشباب الذين تاهوا في دروب الإلحاد أو الإدمان، وجدوا في المسجد طوق النجاة، فغيّر الصلاة مسار حياتهم، وأعاد لهم الإيمان والأمل هكذا تصبح بيوت الله في الغرب مراكزً لإحياء القلوب قبل أن تكون دورًا لأداء الشعائر.

منبر للتعليم والتربية.. حفظ الدين واللغة والهوية

تحوّلت المساجد في أوروبا وأمريكا إلى مدارس تربية متكاملة، تعلّم الأطفال القرآن الكريم واللغة العربية، وتُقيم برامج لتأهيل الآباء والأمهات في التربية الإسلامية.

في ألمانيا، تنظم المراكز الإسلامية دروسًا أسبوعية لتعليم أصول الفقه والسيرة، بينما في كندا، تقدّم المساجد دروسًا لتقوية اللغة العربية وربطها بحفظ القرآن.

وفي فرنسا، حيث اللغة العربية ليست رسمية، يعتبر المسجد المدرسة الأولى التي تحفظ للأجيال الجديدة لغتهم الأم.

ويقول النبي ﷺ: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" [رواه البخاري].

هذا الحديث أصبح شعارًا للعديد من المساجد في الغرب، التي ترى في تعليم القرآن واللغة مفتاح الحفاظ على الهوية الإسلامية في بيئة علمانية.

كما تُنظم المساجد برامج خاصة للفتيات والنساء لتعزيز دورهن في الأسرة والمجتمع، إضافةً إلى حلقات نقاش للشباب حول قضاياهم الفكرية والاجتماعية في ضوء الإسلام الوسطي.

المساجد كمراكز للعمل الإنساني والاجتماعي

في الغرب، تُثبت المساجد أن الإسلام ليس دين شعائر فقط، بل دين إنساني يعالج قضايا الواقع. ففي بريطانيا، تقيم المساجد مبادرات سنوية لجمع التبرعات للفقراء والمشردين من كل الأديان.

وفي الولايات المتحدة، شاركت المساجد في حملات الإغاثة أثناء جائحة كورونا، وقدّمت الدعم الغذائي والطبي للمحتاجين دون تفرقة دينية.
تلك المواقف تعكس قوله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" [المائدة: 2].

كما أصبحت المساجد في الغرب مراكز للحوار بين الأديان، حيث تستضيف لقاءات مع القساوسة والقيادات الكنسية لتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، ونشر ثقافة التعايش والسلام.

رغم ما تحققه المساجد من إنجازات، إلا أنها تواجه تحدياتٍ جسيمة، أهمها النظرة السلبية من بعض الجهات اليمينية في أوروبا التي تحاول تصويرها كمراكز "انعزال" أو "تطرف".

كما تعاني الكثير من المساجد من ضعف التمويل الذاتي، والاعتماد على تبرعات محدودة من الجاليات، إضافة إلى صعوبة الحصول على تراخيص البناء أو التوسعة.

تم نسخ الرابط