رئيس مجلس الإدارة
عمرو عامر
رئيس التحرير
نصر نعيم

المولد النبوي بين البدعة والعبادة.. المذاهب الفقهية تحسم الجدل

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

لم يكن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مجرد مناسبة اجتماعية أو ثقافية، بل ارتبط منذ قرون بعاطفة الأمة الإسلامية تجاه نبيها ﷺ، وتجدد ذكرى ميلاده كأعظم نعمة أنعم الله بها على البشرية. وقد ظل السؤال حول مشروعية هذا الاحتفال حاضرًا في أذهان المسلمين، بين مؤيد يرى فيه تعبيرًا عن الشكر لله وفرحًا بمولد الحبيب المصطفى، ومعارض يصفه بالبدعة.

وفي هذا السياق، جاء سؤال إلى دار الإفتاء المصرية يستفسر عن موقف المذاهب الفقهية الأربعة من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وهل أجاز بعض أئمة المذاهب هذا الفرح والابتهاج؟

دار الإفتاء أكدت في إجابتها أن المذاهب الفقهية الكبرى لم تنكر أصل الفرح والسرور بذكرى مولد النبي ﷺ، بل تحدث كبار فقهائها عن مشروعية الاحتفال باعتباره تعبيرًا عن الشكر لله على نعمة بعثة النبي ﷺ، مؤكدين أن هذه الذكرى من أعظم المناسبات الدينية التي تستوجب الشكر والذكر والابتهاج.

فرح الأمة بميلاد الرحمة المهداة

قالت دار الإفتاء إن الأمة الإسلامية متفقة على أن ميلاد النبي ﷺ أعظم نعمة امتنّ الله بها على خلقه، مستشهدة بقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

وبناءً على هذا الفهم، فإن الاحتفال بالمولد الشريف هو مظهر من مظاهر شكر الله على هذه النعمة العظمى، واستعادة لقيم الرحمة والهداية التي جاء بها النبي ﷺ.


المذهب الحنفي: يوم المولد يوم سرور وفرح

جاء في حاشية ابن عابدين، أحد كبار فقهاء الحنفية، أن العيد في أصله سُمّي بهذا الاسم "لأن لله تعالى فيه عوائد الإحسان على عباده" وأكد أن الأعياد مرتبطة بالفرح والسرور والشكر لله على نعمه المتجددة، وأضاف: "ولا شك أن يوم مولده الشريف صلى الله عليه وسلم من أيام الفرح والسعادة والمسرات".

وبذلك يضع ابن عابدين ميلاد النبي ﷺ ضمن الأيام التي يشرع فيها إظهار الفرح والسرور المشروع، قياسًا على بقية الأعياد والمناسبات التي أنعم الله بها على عباده.

المذهب المالكي: المولد عيد من أعياد المسلمين

أما فقهاء المالكية، فقد ذهب الشيخ ابن عباد في "رسائله الكبرى" إلى أن المولد النبوي يعد عيدًا من أعياد المسلمين، معتبرًا أن ما يفعله الناس فيه من مظاهر الفرح والسرور أمر مباح، بل محمود المقصد.
يقول: "وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم، وكل ما يفعل فيه ما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك، أمر مباح، والحكم بكون هذه الأشياء بدعة أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة، وتدفعه الآراء المستقيمة".


هذا النص المالكي يوضح أن الاحتفال بالمولد له أصل مشروع، إذ يندرج تحت المقاصد الشرعية التي تدعو إلى شكر الله على نعمه، ومن أعظمها ميلاد النبي ﷺ.

المذهب الشافعي: ابن حجر يقرر مشروعية الشكر في المولد

أما عند الشافعية، فقد نقلت دار الإفتاء عن الحافظ ابن حجر الهيتمي قوله في جواب عن حكم المولد: "قد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء... فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟".

إذن، يرى ابن حجر أن الاحتفال بالمولد النبوي يندرج تحت قاعدة شكر الله على نعمه في يوم معين، قياسًا على صيام يوم عاشوراء شكرًا لله على نجاة موسى

المذهب الحنبلي: مؤلفات في المولد

ولم يقف فقهاء الحنابلة بعيدًا عن هذا الاتجاه، فقد ألّف الإمام برهان الدين أبو إسحاق الناجي الحنبلي كتابًا في المولد بعنوان:
"كنز الراغبين العفاة في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة"، وهو دليل على اهتمام فقهاء المذهب بالحديث عن هذه المناسبة المشرفة، ووضع إطار فقهي لها.


الشكر على النعمة أصل شرعي

المذاهب الأربعة إذن، وبأقوال كبار علمائها، تؤكد على أن الاحتفال بالمولد النبوي له أصل شرعي يقوم على مبدأ الشكر لله تعالى على النعم، مستشهدة بأحاديث نبوية عديدة، منها:

قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" (رواه الترمذي).

وصيامه ﷺ يوم الاثنين، فلما سُئل عنه قال: "ذلك يوم وُلدت فيه، ويوم بعثت أو أُنزل علي فيه" (رواه مسلم).

وهذا الحديث الأخير يفتح بابًا واسعًا لمشروعية الاحتفال بالمولد، حيث جعل النبي ﷺ يوم مولده مناسبة للتقرب إلى الله بالصيام، وهو أعظم صور الشكر.

الرد على شبهة البدعة

يرى بعض المعترضين أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة لم يفعلها الصحابة، غير أن الفقهاء أجابوا بأن البدعة المذمومة هي ما خالفت نصًا شرعيًا، أما الأعمال التي تندرج تحت مقاصد الشريعة فهي بدعة حسنة، استنادًا إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه".

وبناءً على ذلك، فإن إظهار الفرح والسرور بمولد النبي ﷺ يدخل في دائرة البدعة الحسنة، التي تحقق مقاصد شرعية معتبرة، مثل تذكير الأمة بسيرة نبيها، وتعزيز محبته في القلوب.

البعد الروحي والاجتماعي للاحتفال بالمولد

الاحتفال بالمولد لم يكن مجرد طقوس، بل كان عبر التاريخ الإسلامي ملتقى للعلماء والعامة لتلاوة القرآن، وذكر السيرة العطرة، وإنشاد المدائح النبوية، وإطعام الفقراء والمحتاجين.

وهذا يحقق مقصدًا شرعيًا آخر، يتمثل في إحياء روح التكافل الاجتماعي، وتأكيد معاني الرحمة التي جاء بها النبي ﷺ.

من خلال أقوال المذاهب الفقهية الأربعة، يتضح أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف له سند شرعي معتبر، يقوم على قاعدة شكر الله على نعمه، وعلى رأسها نعمة ميلاد النبي ﷺ.

وقد أجمع فقهاء الأمة عبر العصور على أن إظهار الفرح والسرور بذكرى المولد ليس بدعة مذمومة، بل بدعة حسنة تحمل في طياتها مقاصد شرعية عظيمة، من أبرزها:

إحياء ذكر النبي ﷺ وتعزيز محبته.

شكر الله على أعظم نعمة للبشرية.

ترسيخ قيم التكافل والرحمة في المجتمع.

تم نسخ الرابط