الإلحاد الجديد بين الشباب.. موجة فكرية عابرة أم أزمة اجتماعية عميقة؟

لم يعد الإلحاد مجرد فكرة في الأوساط الفلسفية الغربية، بل بات اليوم ظاهرة عالمية تتسلل إلى عقول الشباب العربي والمسلم في سياقات اجتماعية وثقافية معقدة ومع اتساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي، وفتح فضاءات الإعلام أبوابها أمام تيارات فكرية متناقضة، وجدنا أنفسنا أمام جيل يطرح أسئلة وجودية جريئة: لماذا نحن هنا؟ ما جدوى العبادات؟ وأين هو الدليل على وجود الله؟
بين من يراها "موضة فكرية" مرتبطة بالانفتاح الرقمي، ومن يعتبرها "أزمة عقائدية" تهدد هوية الأمة، تتجاذب الأصوات حول أسباب انتشار الإلحاد الجديد البعض يرى الضغوط الاجتماعية والسياسية، وآخرون يرونه نتيجة غياب الخطاب الديني المقنع، فيما يضع آخرون الإعلام في قفص الاتهام لدوره في الترويج للأفكار المادية والشبهات الإلحادية وفي المقابل، تتوالى شهادات من شباب مروا بتجربة الإلحاد وعادوا إلى الإيمان، كاشفين عن صراع داخلي طويل انتهى بطمأنينة الإيمان.
يستعرض موقع "تفصيلة" في هذا التقرير أبعاد الظاهرة من زواياها الفكرية والاجتماعية والإعلامية، ويطرح الأدلة الشرعية والإسلامية التي تناولت قضية الشك واليقين، في محاولة للإجابة عن السؤال الملح: كيف يمكن للشباب المسلم أن يحصّن عقيدته في زمن الانفتاح المفرط؟
أولًا: أسباب انتشار الإلحاد الجديد بين الشباب
لا يمكن فهم الظاهرة دون التعمق في أسبابها المتعددة، التي تتشابك بين الفردي والجماعي، وبين النفسي والاجتماعي:
1. ضعف التربية الدينية المبكرة
غياب التربية الروحية في البيوت والمدارس جعل كثيرًا من الشباب يفتقرون للأساس العقدي المتين. وفي لحظة مواجهة الشبهات، تنهار القناعة الهشة أمام زخرف الأفكار.
2. الإحباط السياسي والاجتماعي
يعيش بعض الشباب في دول عربية تحت ضغوط اقتصادية وبطالة وغياب الحريات، فيجدون أنفسهم أمام تساؤل: "أين عدل الله في واقع مليء بالمظالم؟"، وهو تساؤل يتحول لدى البعض إلى مدخل للتشكيك في وجود الله.
3. التأثر بالثقافة الغربية
من خلال الأفلام، والأدب، والمحتوى الرقمي، تصل إلى الشباب أفكار تُمجّد المادية والعلموية، وتُصوّر الدين باعتباره عائقًا أمام التقدم.
4. ضعف الخطاب الديني
اقتصار بعض الدعاة على لغة التلقين والوعظ دون فتح باب الحوار العقلي جعل الشباب يبحثون عن إجابات في فضاءات أخرى قد تفتقد الموضوعية.
ثانيًا: دور الإعلام ووسائل التواصل في تعزيز الظاهرة
لم يعد الإعلام مجرد وسيلة نقل، بل صار صانعًا للأفكار وفي قضية الإلحاد الجديد، لعبت المنصات الرقمية دورًا محوريًا:
القنوات والمنصات الإلحادية: تنتج محتوى مبسطًا وساخرًا يستهدف الشباب، يخلط بين الشبهات الفلسفية والتجارب الشخصية.
المسلسلات والأفلام: كثير منها يقدّم صورة مشوهة عن رجال الدين، ويُلمّع صورة "العقل الحر" الذي يتمرد على الأديان.
وسائل التواصل الاجتماعي: فضاء مفتوح يتيح لكل شخص نشر رأيه بلا ضوابط، حيث تنتشر مجموعات تشجع على تبني الفكر الإلحادي وتطرح نفسها كبديل عن المؤسسات الدينية.
لكن المفارقة أن الإعلام نفسه كان جسرًا لعودة بعض الشباب إلى الإيمان، عبر برامج دينية متوازنة ومنصات حوارية واجهت الفكر بالفكر.
ثالثًا: شهادات من داخل التجربة.. ملحدون وعائدون
عائدون إلى الإيمان: كثيرون يروون أن لحظة العودة كانت بفضل قراءة القرآن بتدبر، أو الاستماع لمحاضرات علمية دينية توازن بين العقل والنقل.
رابعًا: الأدلة الشرعية على مواجهة الشبهات الإلحادية
القرآن الكريم لم يغفل قضية الشك والإلحاد، بل واجهها بالحجة والبرهان:
1. الدليل العقلي على الخالق
قال تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" (الطور: 35). الآية تطرح سؤالًا منطقيًا: لا يمكن أن يوجد شيء من عدم أو أن يخلق الإنسان نفسه.
2. الفطرة السليمة
يؤكد القرآن أن الإيمان بالله مغروس في الفطرة: "فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" (الروم: 30) حتى من ينكر الإيمان يجد نفسه يعود إليه في لحظات الشدة.
3. العدل الإلهي
ورد في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا" (رواه مسلم)، هذا النص يرد على سؤال "الشر والظلم"، مؤكداً أن وجوده في الدنيا ابتلاء، وأن الحساب والعدل الإلهي يتحقق في الآخرة.
4. العقل واليقين
الإسلام يرفض التقليد الأعمى ويدعو للتفكر: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ" (النساء: 82) فالشك ليس نهاية الطريق، بل قد يكون بداية اليقين إذا وُجه بأسلوب علمي.
خامسًا: مقاربة شرعية واجتماعية لمواجهة الإلحاد الجديد
مواجهة الظاهرة لا تكون بالإنكار أو القمع، بل بالوعي والحوار:
تعزيز التربية الإيمانية المبكرة: عبر مناهج تعليمية تراعي عقل الطفل وشخصيته.
تطوير الخطاب الديني: تقديم لغة حوارية عقلانية ترد على الشبهات بلغة العلم والفكر.
احتواء الشباب: توفير مساحات نقاش حرة في الجامعات والمراكز الشبابية، بدل تركهم فريسة للفضاء الرقمي.
الإصلاح الاجتماعي: رفع المظالم وتحقيق العدالة يسهمان في ترسيخ الإيمان بدلًا من إثارة الأسئلة العقائدية المرتبطة بالظلم.
يبقى السؤال: هل الإلحاد الجديد مجرد موجة عابرة ستنحسر مع الوقت، أم أنه أزمة متجذرة تحتاج إلى حلول جذرية؟ الواقع يؤكد أن الظاهرة لا يمكن اختزالها في "موضة شبابية"، فهي تحمل أبعادًا فكرية ونفسية واجتماعية. والإسلام، بمنظومته العقدية والفكرية، يملك من الأدلة العقلية والنقلية ما يكفي لمواجهة هذه الشبهات، شريطة أن يُقدَّم للشباب بلغة عصرية مقنعة.