الحجاب بين الفرض والحرية.. جدل شرعي لا ينتهي في زمن العولمة والتحولات الثقافية

يظل الحجاب واحدًا من أكثر القضايا إثارة للجدل في العالم الإسلامي وخارجه، إذ يتقاطع فيه البُعد الشرعي مع الحرية الفردية، وتتجاذبه الخطابات الدينية والاجتماعية والإعلامية وبينما يجزم الفقهاء بأن الحجاب فريضة شرعية ثابتة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، يطرحه آخرون باعتباره خيارًا شخصيًا يدخل ضمن نطاق الحرية الفردية للمرأة هذا التناقض جعل كثيرًا من الفتيات المسلمات في مواجهة ضغوط مزدوجة: دعوة شرعية للالتزام، وضغوط اجتماعية أو إعلامية باتجاه آخر.
الحجاب في النصوص الشرعية تكليف إلهي
أجمع جمهور الفقهاء عبر القرون على أن الحجاب ليس مجرد عادة أو إرثًا ثقافيًا، بل هو واجب شرعي على كل امرأة مسلمة بالغة.
في القرآن الكريم جاء قوله تعالى: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ" (النور: 31).
وفي السنة النبوية وردت أحاديث كثيرة تحث على ستر المرأة لجسدها أمام الأجانب، بما يؤكد أن الحجاب شعيرة دينية غايتها العفة وصيانة المجتمع من الفتنة.
ومن هذا المنطلق، يؤكد العلماء أن الحجاب واجب كالصلاة والصيام، لا يسقط بتغير الزمان أو المكان.
على الجانب الآخر، يرى أنصار الحرية الفردية أن مسألة الحجاب يجب أن تُترك لاختيار المرأة، باعتباره جزءًا من العلاقة الخاصة بينها وبين ربها ويذهب هذا التيار إلى أن الإيمان لا يُفرض بالقهر، وأن إجبار المرأة على ارتداء الحجاب يتناقض مع مفهوم الحرية.
لكن الفقهاء يردّون بأن الحرية في الإسلام ليست مطلقة، وإنما مقيدة بالشرع فالحجاب في نظرهم يدخل في دائرة الواجبات الإيمانية التي لا يملك المسلم تركها بحجة الحرية، تمامًا مثل الصوم أو الزكاة.
ضغوط اجتماعية متناقضة بين الالتزام والخلع
الحجاب في واقعنا المعاصر لم يعد قضية دينية فحسب، بل تحوّل إلى ملف اجتماعي شائك، تتجاذبه اتجاهات متناقضة.
ضغوط باتجاه الالتزام: في مجتمعات تقليدية، تُجبر بعض الفتيات على ارتداء الحجاب تحت وطأة نظرة المجتمع التي قد تصل إلى التشكيك في سمعة غير المحجبة.
ضغوط باتجاه الخلع: في المقابل، تواجه المحجبات في بيئات أخرى حملات إعلامية ووظيفية تصور الحجاب على أنه رمز للتخلف، مما يدفع بعضهن إلى خلعه رغم قناعتهن الدينية.
وهكذا تجد الفتاة المسلمة نفسها بين مطرقة الالتزام القسري وسندان الإقصاء الاجتماعي.
موقف العلماء: خطاب وسطي يجمع بين الفرض والرفق
في مواجهة هذا الجدل، طرح العلماء خطابًا وسطيًا يرتكز على:
1. التأكيد على فرضية الحجاب، باعتباره تكليفًا شرعيًا.
2. رفض الإكراه والعنف، إذ إن الإيمان لا يتحقق بالقسر بل بالاقتناع.
3. الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، مع العمل على خلق بيئة إعلامية ومجتمعية تشجع على الحجاب دون استهزاء أو قهر
دار الإفتاء المصرية أوضحت في بياناتها أن الحجاب فرض شرعي، وتركه معصية لا تُخرج المرأة من الإسلام، لكنها تبقى مسلمة مهما قصّرت، وهو ما يعكس خطابًا متوازنًا يجمع بين النص الشرعي والرحمة.
لعب الإعلام ومواقع التواصل دورًا أساسيًا في تشكيل صورة الحجاب، فبعض القنوات والبرامج تعرضه كرمز للعفة والهوية الإسلامية.
فيما تصور أعمال درامية أخرى الحجاب كوسيلة لقمع المرأة وتقييد حريتها.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، تدور حرب رمزية بين صفحات تدعو للالتزام بالحجاب، وأخرى تروج لخلعه باعتباره "تحررًا".
هذا التضارب الإعلامي يزيد من ارتباك الفتيات ويجعل الحجاب رمزًا لمعركة أوسع حول هوية المرأة المسلمة.
الحجاب كعبادة لا كزي اجتماعي
بعيدًا عن كل الضغوط، يؤكد العلماء أن قيمة الحجاب الحقيقية تكمن في كونه قربة إلى الله فالمؤمنة ترتديه تعبّدًا لا خضوعًا لعرف أو ضغط وإذا فُقد هذا البعد الروحي، يتحول الحجاب إلى مجرد عادة فاقدة للمعنى.
من هنا تبرز أهمية التربية الدينية التي تغرس معنى الحجاب كالتزام إيماني واعٍ، لا كزي مفروض بالقوة.
ويبقى الحجاب فريضة شرعية ثابتة، لكنه في واقعنا المعاصر أصبح قضية مركبة تتداخل فيها أبعاد دينية واجتماعية وثقافية وبين من يراه عبادة لا تسقط، ومن يعتبره حرية شخصية، يظل الحجاب شاهدًا على جدلية أوسع: كيف تعيش المرأة المسلمة هويتها بين النص الشرعي وضغوط الواقع؟
ورغم تعدد الأصوات، فإن جوهر القضية ينبغي أن يبقى داخل دائرة الإيمان والاقتناع، بعيدًا عن العنف أو الاستهزاء، ليظل الحجاب رمزًا للتوازن بين الدين والحرية، بين الفرد والمجتمع، وبين الالتزام الشرعي والكرامة الإنسانية.