زواج القاصرات بين فقه الشريعة وقوانين حماية الطفولة

لا يزال زواج القاصرات واحدًا من أكثر القضايا المثيرة للجدل في المجتمعات الإسلامية والعربية فهو من جهة يجد جذوره في الفقه الإسلامي الذي أجاز زواج الصغيرة ضمن ضوابط محددة، ومن جهة أخرى يواجه انتقادات شديدة من المؤسسات الحقوقية والهيئات الدولية التي تصفه بـ"الانتهاك الصارخ لحقوق الطفولة" وبين هذا وذاك تقف المجتمعات أمام سؤال محوري: كيف نوازن بين النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة من جهة، وبين متطلبات حماية الطفولة في العصر الحديث من جهة أخرى؟
النصوص الشرعية: قراءة في القرآن الكريم والسنة النبوية
١- القرآن الكريم
تناول القرآن قضية الزواج في عدة مواضع، ومن أبرزها:
قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء: 6).
هذه الآية اعتبرها المفسرون دليلًا على أن البلوغ هو الحد الفاصل لأهلية الزواج، مقرونًا بالرشد، أي القدرة على تحمل المسؤولية.
كما استدل العلماء بقول الله تعالى: ﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ (الطلاق: 4)، في سياق بيان عدة المطلقة وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الآية تدل على أن الطلاق يمكن أن يقع على من لم تبلغ الحيض، ما يعني أن الزواج بها كان ممكنًا.
٢- السنة النبوية
من أبرز الأحاديث التي يستند إليها المؤيدون:
حديث السيدة عائشة رضي الله عنها الذي رواه البخاري ومسلم:
"تزوجني النبي ﷺ وأنا بنت ست، ودخل بي وأنا بنت تسع."
وقد اعتبره البعض دليلاً على جواز زواج الصغيرات، بينما يرى آخرون أن الحديث له سياقه التاريخي والاجتماعي الخاص، ولا يصلح ليكون قاعدة عامة في كل زمان ومكان.
٣- مقاصد الشريعة
علماء الأصول يؤكدون أن المقاصد العليا للشريعة تقوم على حماية الضروريات الخمس: (الدين، النفس، العقل، النسل، المال) ومن هذا المنطلق، فإن أي ممارسة تؤدي إلى ضرر جسيم بالصحة أو العقل أو النسل ينبغي تقييدها أو منعها، حتى لو كان أصلها مباحًا في الفقه.
آراء المذاهب الفقهية: إجماع على الجواز واختلاف في الضوابط
الحنفية: أجازوا زواج الصغيرة ولو قبل البلوغ، لكنهم أعطوها خيار البلوغ، أي الحق في فسخ العقد بعد أن تبلغ إذا لم ترَ فيه مصلحة.
المالكية: أجازوه، لكنهم اعتبروا أن الولي يتحمل المسؤولية الكبرى في تقدير المصلحة.
الشافعية: اشترطوا نية المصلحة وعدم الضرر، وأكدوا أن الدخول لا يتم إلا إذا كانت الفتاة قادرة جسديًا.
الحنابلة: وافقوا على صحة العقد للصغيرة، لكنهم نصوا على أن الدخول لا يجوز إلا إذا أطاقت، أي كانت قادرة على تحمل العلاقة الزوجية.
وبذلك، يتبين أن الفقهاء أجمعوا على الجواز من حيث الأصل، لكنهم وضعوا قيودًا تتعلق بالقدرة والمصلحة، وهو ما يفتح الباب أمام الاجتهاد المعاصر.
المفاهيم الحديثة: حماية الطفولة كأولوية
مع تطور المجتمعات وظهور مفاهيم حقوق الإنسان والطفولة، أصبح تحديد سن أدنى للزواج ضرورة قانونية.
الدراسات الطبية والاجتماعية أثبتت أن:
الحمل المبكر يعرض القاصرات لمخاطر صحية خطيرة، منها النزيف ومضاعفات الولادة.
الفتاة الصغيرة غالبًا ما تُحرم من التعليم وتُلقى في أعباء أسرية لا تطيقها.
الطلاق يتزايد في الزيجات المبكرة بسبب غياب النضج النفسي والعاطفي.
وبالتالي، اعتبرت المنظمات الدولية أن زواج القاصرات يشكل "انتهاكًا لحقوق الطفل"، وطالبت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتحديد سن الزواج بـ 18 عامًا كحد أدنى.
في مصر، حدد قانون الطفل سن الزواج بـ 18 عامًا، ولا يُعترف قانونيًا بأي عقد زواج قبل هذا السن ورغم ذلك، ما زالت حالات كثيرة تتم بعقود عرفية في القرى والنجوع.
في المغرب، القانون يحدد السن بـ 18 عامًا، لكنه يتيح للقاضي منح استثناءات.
في السعودية، اتخذت وزارة العدل قرارات تحد من زواج القاصرات دون سن 15 عامًا، مع اشتراط موافقة المحكمة.
في الأردن، تم رفع سن الزواج إلى 18 عامًا مع منح صلاحيات استثنائية للقضاة الشرعيين.
هذه القوانين تعكس محاولة للتوفيق بين النصوص الشرعية من جهة، وحماية الطفولة من جهة أخرى.
وراء الأرقام والإحصاءات، هناك قصص مأساوية لفتيات قاصرات دخلن قفص الزوجية مبكرًا:
فتاة في الريف المصري تزوجت في عمر 14 عامًا، لتصبح أمًا في الخامسة عشرة، ثم مطلقة في السادسة عشرة، تواجه أعباء حضانة طفل بلا سند.
أخرى في اليمن تُوفيت أثناء الولادة بسبب مضاعفات الحمل المبكر.
قاصرات كثيرات يُحرمن من استكمال تعليمهن بسبب الزواج المبكر، لتُغلق أمامهن أبواب المستقبل
جدل لا ينتهي: بين الشرع والمصلحة
المؤيدون يرون أن زواج القاصرات جائز شرعًا إذا توافرت المصلحة ولم يوجد ضرر، ويستندون إلى النصوص الشرعية وأقوال الفقهاء.
أما المعارضون فيرون أن زمننا تغير، وأن الضرر أصبح هو الغالب، ما يستوجب منع هذه الممارسة أو تقييدها حمايةً للطفولة.
علماء المقاصد يؤكدون أن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فإذا كان زواج القاصرات في العصر الحديث يجلب مفاسد أكثر من المصالح، فإن تقييده أو منعه يتفق مع روح الشريعة.
دعوات للإصلاح والمراجعة
تتعالى الأصوات اليوم من داخل المؤسسات الدينية والقانونية للمطالبة بـ:
1. تثبيت سن قانوني للزواج لا يقل عن 18 عامًا، مع إلغاء الاستثناءات.
2. تعزيز الوعي الديني والاجتماعي بأن الزواج مسؤولية وليس مجرد عقد.
3. تفعيل دور الإرشاد الأسري لحماية الفتيات من الزواج القسري.
4. إعادة قراءة النصوص الشرعية في ضوء مقاصد الشريعة وظروف العصر.
نحو توازن شرعي وإنساني
زواج القاصرات قضية تضع المجتمعات الإسلامية أمام تحدٍ كبير: كيف نوفق بين النصوص الشرعية التي أجازت الزواج المبكر، وبين المقاصد العليا للشريعة التي تحمي الإنسان من الضرر؟
الإجابة ربما تكمن في فهم أعمق للشريعة باعتبارها دينًا مرنًا صالحًا لكل زمان ومكان، لا يُجمِّد النصوص بل يفعّلها وفق المصلحة.
ويبقى مستقبل هذه القضية مرهونًا بقدرتنا على إيجاد توازن حقيقي يضمن حماية الطفولة ويحترم ثوابت الشريعة الإسلامية.